إلى متى هذا الهوان؟!
إن الحمد لله نحمده ونستعينه،ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } سورة آل عمران: 102. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سورة النساء: 1. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب: 70-71.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: لقد عاشت أمة الإسلام فترات مختلفة، متقلبة بين الضعف والقوة،فقد عاشت في فترات الإسلام الزاهرة قوية متماسكة، وذلك لأنها التزمت بالإسلام قولاً وفعلاً، وعقيدة ومنهجاً، وظاهراً وباطناً، وطبقته في السراء والضراء، فنصرها الله نصراً مؤزَّراً؛ ومصداق ذلك من كتاب ربنا: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} سورة محمد: 7. وقال-تعالى-: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} سورة الحـج: 40. ولكن لماَّ ارتكبت هذه الأمَّةُ ما يُسخط الله، وعزفت عن العمل بطاعته, ابتلاها اللهُ ببلايا عظيمة، وهزائم متتالية، وذل وهوان؛ فبعد أن كانت لها السيادة والأمر والنهي أصبحت مسلوبة السيادة، لا قيمة لها ولا وزن بين بقية الأمم، فاستبدلت القوة ضعفاً، والعزة ذلة، والاجتماع فرقة، وأصبحت مستباحة الحمى، مهيضة الجناح، يعبث بها العابثون، ويفسد فيها المفسدون، تنتهك حرماتها، وتسرق مقدراتها، ويُسْتوْلَى على أرضها، ويقتل أبناؤها ويؤسرون ويسلبون وتُشَتت شعوبها، وهي لا تملك حولاً ولا طولاً..!. في كل أرض لها مأساة، وفي كل بلد لها محنة.. أبناؤها يُشرَّدون، ودُعاتها يُقَتّلون، نساؤها تُرمَّل، وأطفالها تُيتم..
قتلٌ وتشريدٌ وهَتـْكُ محارمٍ *** فينا وكأس الحادثاتِ دهاقُ
وقف الصليب على الطريق فلا تسل *** عما جناه القتلُ والإحراقُ
وحشيَّـة يقـف الخيـالُ أمامهـا *** متضائلاً وتمجُّها الأذواقُ
كُشِـفَ الستار وبان كلُّ مُخبَّأٍ *** فإلى متى تتطـامن الأعنـاقُ
فما الذي أصابها لها حتى وهنت، ووصلت إلى هذا المآل..؟! ما الذي جرى لها حتى تغيبت هذا الغياب المذهل الذي أفقدها اتزانها ووجودها..؟!1.
أيها المسلمون: إن مآسي ومعاناة المسلمين اليوم كثيرة وشديدة، ولكن ما الذي أوصلنا إلى هذه الحالة المأسوية؟ لا شك أن الذي أوصلنا إلى ذلك هو سوء أفعالنا، وارتكابنا لأسباب كانت السبب في ذلنا وضعفنا وهواننا؛ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} سورة آل عمران: 165. وقال الله- تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}سورة الشورى: 30. فمن هذه الأسباب؛ إعراضنا عن الله؛ والله- تعالى- يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} سورة طـه: 124-126. فمن أعرض عن الله فإنه يُصاب بالذلة والمهانة في الدُّنيا والآخرة، والله قد حذَّرنا من الإعراضِ عن آياتِهِ, فقال-تعالى-:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}سورة السجدة: 22.وقال-سبحانه-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} سورة الكهف: 57. ومن أسباب الهوان التي أصاب الأمة؛ مخالفة أمر الرسول-صلى الله عليه وسلم-، والإعراض عن سنته، قال- تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة النــور: 63. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد اللهُ-تعالى- وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذل والصغار على مَن خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم2. فأي عقاب أعظم من الذل والصغار الذي حل بنا، وذلك لما مخالفتنا لأمر الرسول- صلى الله عليه وسلم-، وإعراضنا عن سنته؟!. والله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة النــور: 63. ومن أسباب الهوان- عباد الله-؛ ترك الجهاد في سبيل الله؛ قال-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}سورة التوبة: 3839. فترك الجهاد في سبيل الله –سبحانه-معصية عظيمة يترتبُ عليها العذابُ الأليمُ في الآخرةِ، والذل والهوان والصَّغَار في الحياةِ الدُّنيا؛ فعن ابن عمر-رضي الله عنهما-, قال: سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول: إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛سلط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم3. والله المستعان.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّينِ.
أمَّا بعدُ:
ومن أسباب الهوان التي أصاب أمتنا اليوم؛ إغراقها في الدنيا، وإعراضها عن العمل للآخرة؛ قال-تعالى-: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} سورة التوبة: 24. وعن عمرو بن عوف-رضي الله عنه- قال: أن رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح فقدم بمال من البحرين فسمعتِ الأنصارُ بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم-، فلما صلَّى رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- انصرف فتعرَّضُوا له فتبسم رسول اللّه-صلى اللّه عليه وسلم- حين رآهم ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء؟!. قالوا: أجل يا رسول اللّه. قال:فأبشروا أو أملوا ما يسركم، فو اللّه ما الفقر أخشى عليكم،ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم4. وعن ثوبان-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله: فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم؛ لحبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت5. ومن أسباب الهوان؛ التفرق والاختلاف، المؤديان إلى الشحناء والبغضاء، ثم الخصام والجدال؛ قال الله –تعالى-: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} سورة الأنفال: 46. وغير ذلك من أسباب الذل والهوان والهزيمة التي منيت به هذه الأمة، نسأل الله العافية والسلامة.
أمة الإسلام: إذا كنا نريد العزة والنصر والتمكين، فلنبتعد عن تلك الأسباب التي أدت إلى هواننا وذلنا وهزيمتنا، ولنعد إلى الله عودة كاملة صادقة، ولنتدبر قول الله -سبحانه وتعالى- في محكم التنزيل: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمَّا يَاًتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى *وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} سورة طه: 123-127. فهذا هو خلاصة الموضوع،وهو خلاصة الداء..! لماَّ أعرضت الأمة عن شرع الله –تعالى-، وهجرت كتاب الله -عز وجل- علماً وعملاً، وأعرضت عن سنة النبي المصطفى-صلى الله عليه وسلم-، واستبدلتها بقوانين وضعية، واجتهادات بشرية ملفقة من الشرق والغرب.. فكانت النتيجة الملموسة التي تجنيها الأجيال : التخبط والشقاء الذي نرى آثاره تزداد يوماً بعد يوم.. كم ذاقت الأمة من البلاء، وأصابها من الشدة ، بسبب إدبارها وإعراضها عن شرع الله ووحيه المنزل؟! وكم تقلبت في ألوان من الذُّلِّ والهوان..؟! تأمل حال الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها، وسوف تجد حالةً من القلق، وعدم الاتزان تسيطر على كثير من أجزائها، وصدق المولى-جل وعلا-إذ يقول: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِباً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}سورة الملك: 22.
فيا أيها المؤمنون: إنَّ السَّعادة كل السعادة، والطمأنينة كل الطمأنينة في تعظيم شرع الله–تعالى-واتباعه والاهتداء بهديه. والشقاوة، والتخبط كل التخبط، إنما هو في الإعراض عن شرع الله-تعالى-والاستهانة به وهجره؛ قال الله-تعالى-:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ}6. سورة الرعد: 28. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا, وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التَّواب الرَّحيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
1 – انظر مجلة البيان العدد(97). صـ(4).
2 – رواه أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب، رقم(4868). وصححه الألباني في مشكلة الفقر، رقم(24).
3 – رواه أبو داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، رقم(3003)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم(295).
4 – رواه البخاري، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدراً، رقم(3712). ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، رقم(5261).
5 – رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، رقم (3745). وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم (3610).
6 – مجلة البيان العدد(97). صـ(4). بتصرف.