تنظيم النسل وتحديده
الحمد لله الذي أوضح لعباده طرق الهداية، ويسر لهم أسباب النجاة والوقاية، وأنزل كتاباً يشتمل على العلم والدراية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في العبادة والولاية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي أيد الله به الدين ونصره بالحماية، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وسلم تسليماً، أما بعد:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران.
أيها الناس: لقد “خلق الله الإنسان واستعمره في الأرض ليكون خليفة فيها؛ وفي سبيل تحقيق هذه المهمة أحيط بالرعاية الربانية؛ وسخر الله سبحانه وتعالى له ما على الأرض من خيرات، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (70) سورة الإسراء.
وأرشده إلى السير على هدى التشريع المحقق لمصالحه وغاياته في العاجل والآجل، دفعاً لمفاسد السير بالهوى ومهالك الضرب على غير الهدى.
وجاء التكريم الرباني -بأنواعه المعنوية والمادية– مبيناً في آي القرآن والسنة النبوية، حيث تضافرت الأدلة على اعتبار قواعد عامة ومقاصد كلية جامعة تلخصت في خمس كليات أو ضروريات لكي تستقيم حياة الفرد والأمة في هذه المعمورة؛ هذه الضروريات هي: ضرورة حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ النسل، ثم طولب الإنسان بوجوب الحفاظ عليها وذلك من جانبين؛ جانب الوجود وجانب العدم، لئلا تنخرم مصالحه.
وكذلك جاء الأمر بالنظر في وسائل هذا الحفظ واعتبارها، سواء كانت الوسائل مشروعة أصالة، أو مشروعة تبعاً كوسائل مستحدثة لغرض الحفاظ على هذه الضروريات.
فهذه الكليات عامة وثيقة الصلة بمهمة الإنسان في تحقيق الاستخلاف؛ كما أن لكلية النسل بالذات صلة وثقى بالحفاظ على الجنس البشري وبقاء نوعه بالتناسل والتكاثر، وهو أمر لا مناص منه لاستمرار النوع البشري وبقاء الإنسان وذريته، وقيامهم بالوظيفة المنوطة بهم، فلا ينقطع لهم نسل ولا ينقرض لهم نوع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وينقطع التكليف.
ولتتحقق هذه الغاية شرع الله عز وجل الزواج وحثّ عليه، وقرر له أحكاماً مضبوطة، وضوابط دقيقة لم يُتْرَكْ لاجتهاد المجتهدين فيها مجال كبير، فقد اعتبر هذا النظام من الثوابت التي لا تخضع لأحكام الزمان المختلفة ولا لأوضاع المكان المتنوعة؛ وذلك من خلال تنظيم عقد النكاح وما يترتب عليه من آثار مادية ومعنوية في الزوجين والأولاد ثم على مجموع أفراد الأسرة من علاقات دم ونسب ثم إرث وغيرها”.1
وقد حث الرسول صلوات الله وسلامه عليه على اختيار الزوجات المنجبات للأولاد ليكون ذلك من أعظم الأسباب للحفاظ على النسل.
فقد روى الإمام أحمد عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهياً شديداً، ويقول: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).2 وروى أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار قال جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال (لا) ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم).3
وفي الحديث “فضيلة كثرة الأولاد لأن بها يحصل ما قصده النبي -صلى الله عليه وسلم- من المباهاة”.4
ولتحقيق حفظ النسل نهى الشرع المطهر عن التبتل والاختصاء، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: “ردَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا”.5
“والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النسل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية”.6
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أماَ والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).7
و”لا ينتظم أمر المعاش حتى يبقى بدنه سالماً ونسله دائماً، ولا يتم كلاهما إلا بأسباب الحفظ لوجودهما وذلك ببقاء النسل”.8
أيها المسلمون: وبإيجاد النسل يكتمل البناء الأسري، كما يبينه الخالق تبارك وتعالى في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (189) سورة الأعراف.
حيث يعدّ مجيء الأولاد الانتقال بالأسرة إلى عهدها الذهبي، وهو “عهد الاستقرار والفهم الصحيح للحياة الأسرية، والإدراك المباشر لمسؤولياتها”9، مما يتطلب تغيراً في مسؤوليات الزوجين، من فردين إلى مسؤولين على رعاية وتنشئة نسلهما.
ولم يكتف الشرع المطهر بما سبق ذكره من وسائل الحفاظ على النسل بل وزاد على ذلك أن حرم الزنا والإجهاض؛ إذ أن منع النسل أو تحديده من الأعمال التي تنافى مقاصد النكاح.
ولهذا لا تبيحه الشريعة إلا عند الضرورة وعند وجود عذر يقتضيه كالخوف على حياة الأم ونحوه، وليس من الأعذار وجود عذر يقتضيه كالخوف على حياة الأم ونحوه، وليس من الأعذار خوف الفقر وكثرة الأولاد أو تزايد السكان؛ لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بالرزق لكل كائن حي.
حيث قال في كتابه الكريم: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ* فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}(22-23) سورة الذاريات.
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (6) سورة هود، وقال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} (31) سورة الإسراء.
ومن علم أن مال الله غاد ورائح، وأن مع العسر يسراً، وأن الغني قد يصبح فقيراً معدوماً والفقير المعدم قد يصبح غنياً وافر الغنى، لم يشك أن الغني والفقر من العوارض التي تتبدل.
وبهذا علم أن تحديد النسل خوف الفقر غير جائز.
وهذا لا ينافى أن هناك ضرورات خاصة بالمرأة تجيز منع الحمل كما ذكرنا، ولكل حالة حكمها الخاص.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وأتوب إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أيها المسلمون: أشرنا في الخطبة الأولى إلى أن الله سبحانه وتعالى نهى الأمة عن قطع النسل أو تحديده؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتكثير الأمة فيعني ذلك حرمة عكسه وهو القطع أو التحديد.. وتحديد النسل يراد به وضع حد أعلى لعدد الأولاد الذين ينجبهم الزوجان، فإن كان هذا التحديد بقرار عام من جهة رسمية فلا يجوز؛ لأنه يعارض توجيه الإسلام إلى تكثير النسل؛ ولأنه في الغالب يبنى على مقاصد اقتصادية، وأن كثرة النسل تؤثر على المستوى الاقتصادي للبلاد، وأن الموارد لا تكفي إلا لعدد محدود، وهذا كله مخالف لحسن الظن بالله والتوكل عليه، وأنه ما من نفس منفوسة إلا على الله رزقها.
أما إن كان القرار خاصاً بزوجين معينين فينظر سببه، فإن كان السبب طبياً كتضرر المرأة من الحمل وخطره عليها، وثبت ذلك من قبل طبيب حاذق أمين أو من لجنة طبية موثوقة فلا بأس بذلك، وأما إذا لم توجد حاجة حقيقية ولا ضرورة، وإنما قصد الزوجان الاكتفاء بعدد محدد من الأولاد وكان هذا عن تراض منهما فهذا لا يخلو من كراهة شديدة؛ لمخالفته مقصد من أهم مقاصد الزواج، لكن لا نقول بتحريمه؛ لأن ترك الزواج وإيثار العزوبة ليس بمحرم، فلأن لا يحرم عليه الإنجاب بعد الزواج من باب الأولى.
أما تنظيم النسل فيقصد به المباعدة بين فترات الحمل، والأخذ بأسباب منع الحمل حتى لا يكون الإنجاب متتابعاً، وقد يرى الزوجان في ذلك مصلحة كراحة الأم من أتعاب الحمل مدة قبل أن تحمل بآخر، أو لمزيد من التفرغ للعناية بالطفل قبل أن يأتي له أخ جديد، فلا بأس بذلك، وقد كان العزل معروفاً على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول جابر رضي الله عنه: “كنا نعزل والقرآن ينزل” والعزل سبب من أسباب منع الحمل.
وأفتت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، ومجمع الفقه الإسلامي بهذا الشأن:
مبينين بـ”أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الرب تعالى لعبادة،… وأن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة؛ حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعمار أهلها،… وأن في الأخذ بذلك ضرباً من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله وإضعافاً للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وربطها؛ لذلك كله فإن المجلس قرر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقاً، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية إملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين”، أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضار معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره، عملاً بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل، وتمشياً مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب دواء لإلغاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة”.10
أيها الناس: لا ننسى ما لتحديد النسل من مضار، فقد كشف الأطباء والمختصين عن بعض تلك المضار والتي منها:
“انتشار جريمة الزنا وانتهاك الحرمات، فإن الذي يردع الإنسان ويقف به عند حده هو خوفه من الله تعالى أولاً ثم خوفه من العار ثانياً، فإذ لم يكن هناك خوف من الله تعالى، فإنّ انتشار وسائل منع الحمل وسهولة الحصول عليها يذهب الخوف من العار، حيث تأمن المرأة على نفسها من الحمل واكتشاف أمرها.
ومن المضار: انتشار الزنا تنتشر الأمراض الفتّاكة الخبيثة كمرض الإيدز والزهري والسيلان وغيره.
ومنها: انتزاع جلباب الحياء وفساد الأخلاق وضياع الأنساب وضعف الروابط بين الأسر.
ومنها: نقص الأيدي العاملة وكثرة العجزة والعجائز لقلة التناسل، ممّا من شأنه إضعاف قوة الدفاع عن هذه الأمة.
ومنها: ضعف العلاقة الزوجية بين الزوجين لعدم وجود الأولاد أو لقلتهم باستعمال وسائل تورث العقم ابتداءً أو تقف بالتناسل عند حد معيّن.
ومنها: ضياع نظام الأسرة وكثرة حالات الطلاق ما دام الشاب يجد حاجته من الفتاة متى شاء وما دامت وسائل منع الحمل تستر أمرهما إن كان لا زال يوجد عندهما شيء من الحياء.
ومنها: ومن ناحية الآثار الصحية على المرأة فقد ثبت علميا أن استخدام أي نوع من وسائل تحديد النسل يعود بآثار وخيمة على الحالة الصحية للأم.
ومن هنا تعترف الأوساط الطبية بأن الوسائل المستخدمة لمنع الحمل لها أضرار على من يتعاطونها , وذلك نتيجة أبحاث كثيرة خرجت بهذه النتائج: اختلال في التوازن الهرموني بالجسم.. زيادة وزن الجسم وتجمع كميات كبيرة من السوائل به.. حدوث التهابات شديدة بالجهاز التناسلي للأم.. زيادة احتمالات التعرض للنوبات القلبية المميتة لمن تجاوزن الثلاثين من العمر ولا سيما من تخطين الأربعين.
أما بحق الرجل فيقول الأطباء أنه يصاب بالاختلال في نظامه الجسماني والضعف في قوته التناسلية كما يُصاب بالقلق”.11
اللهم كثر عدد هذه الأمة وحقق أمنية النبي -صلى الله عليه وسلم- في كثرة نسلها، وأصلح شأن المسلمين، وأعنهم على التمسك بكتابك وسنة نبيك، والبعد عن الأفكار الغربية الآثمة التي تريد دمار البلاد والعباد..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 من مقال لـ:د. فريدة صادق زوزو. المصدر: لها أون لاين.
2 رواه الإمام أحمد برقم (13594) قال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره.
3 رواه أبو داود برقم (2050) والنسائي (3227) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1805).
4 شرح الطيبي على المشكاة (6/226).
5 رواه البخاري برقم (4786) ومسلم (1402).
6 فتح الباري شرح صحيح البخاري- لابن حجر العسقلاني(9/118).
7 رواه البخاري برقم (4776) ومسلم (1401) واللفظ للبخاري.
8 فيض القدير للمناوي (3/242).
9 مصطفى الخشاب: دراسات في الاجتماع العائلي، بيروت: دار النهضة العربية، 1985م – ص: (81).
10 قرار هيئة كبار العلماء رقم: (42)، بتاريخ 13/4/1396هـ.
11 من المصدر: موقع الفلق، بتصرف.