حكم التقليد
الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، إله الأولين والآخرين، ومالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنّ من الأدواء الخطيرة التي بُلي بها بعض المسلمين: داء التقليد الأعمى، فلقد قلد بعض المسلمين غيرهم من دون ضوابط ولا أصول، فقلد بعضهم الكفار في فعل ما يغضب الله، من الأفكار والسلوك والمظاهر والمناسبات ونحو ذلك.
ومما يذم من ذلك تقليد الأبناء للآباء والأجداد والأخذ بكل حسن وقبيح من دون برهان وحجة، وتقليد بعض المتعلمين مشايخهم حتى وإن خالفوا الدليل، وغير ذلك من أنواع التقليد التي ابتلي بها المسلمون..
والله -تبارك وتعالى- قد حذرنا من التقليد الذي يؤدي إلى رد الحق ورفضه؛ فقال جل وعلا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} سورة البقرة (170). وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} سورة المائدة (104). وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير} سورة لقمان(21). وقوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ* بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ} سورة الزخرف (21)(24). وقال عن المشركين: {قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} سورة إبراهيم (10). وقال الله -عز وجل-: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} سورة البقرة(166)(167). وقال الله -عز وجل-: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} سورة الأنبياء(52) (53). وقال: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} سورة الأحزاب(67). إلى غير ذلك من الآيات التي حذرنا الله فيها من التقليد الأعمى.
أيها الناس: في تلك الأدلة برهان واضح على أن الله: "قد ذم في القرآن من عدل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه، وهذا هو التقليد الذي حرمه الله ورسوله، وهو أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول، وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة في كل وقت وكل مكان في سره وعلانيته وفي جميع أحواله"1.
"وأصل الدين أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا مكروه إلا ما كرهه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، ولا مستحب إلا ما أحبه الله ورسوله، فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، ولهذا أنكر الله على المشركين وغيرهم ما حللوه أو حرموه أو شرعوه من الدين بغير إذن من الله"2.
أيها الناس: إن التقليد الأعمى للأشخاص -مع توفر آلة الفهم والعلم ووسائله- مخالف للأدب مع دين الله ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أمر الله بطاعته ومعرفة سنته وشرعته " فرأس الأدب معه -صلى الله عليه وسلم- كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكاً أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وحد المرسِل سبحانه بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل؛ فهما توحيدان لا نجاة للعبيد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره، وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره وإلا فإن طلب السلامة أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم، وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً، فقال: نؤوله ونحمله. فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحال"3.
أيها المسلمون: إن من أشر أنواع التقليد ما بلغ ببعض الناس من أن يقلد غيره في ارتكاب المعصية والجريمة، والافتخار بذلك، والمجاهرة بفعلها؛ بدعوى أنها منتشرة وموجودة في بعض البلدان الغربية، والله -عز وجل- يقول: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}سورة الأعراف (28). فقد "ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنّ الكفار إذا فعلوا فاحشة استدلوا على أنها حق وصواب، بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأنهم ما فعلوها، إلا لأنها صواب ورشد"4.
وفي الحديث عن سالم بن عبد الله قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)5.
فتجد بعض أهل الفسوق والمعاصي يجاهر بمعصيته ليقلده أصحابه ومعاريفه في ذلك، وهذا واقع في جرم عظيم وداع إلى شر كبير، وهو نوع من حب شيوع الفاحشة في المجتمعات الذي قال الله عنه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النــور.
أيها الناس: إن مما يجب أن نعلمه أن التقليد في الأحكام الفقهية كحال أتباع الأئمة الأربعة لا يخرج عن قسمين:
أحدهما: تقليد مباح، وهو أن يتبع المسلم العامي مذهباً من المذاهب الأربعة، بل هو في الحقيقة يقلد أحد علماء المذهب الذي عاصره. فإذا علم أنّ هذا العالم معروف بالتقوى والورع، وخشية الله تعالى، واشتهر بين الناس بعلمه، فإن له أن يقلده.
ولكن ينبغي أن يعلم بأن تقليد هذا المذهب أو هذا العالم ليس واجباً عليه، بل إذا عرف عالماً آخر أغزر علماً وأكثر ورعاً، فإن تقليده له أولى من تقليده لذاك.
وعليه أن يعتقد أن هذا التقليد إنما هو لعجزه عن معرفة حكم الله مباشرة لعدم أهليته، لا لأن اتباع ذلك المذهب أو هذا العالم أمر لازم لذاته.
ثانيهما: تقليد مذموم، وهو أن يعتقد المسلم أنه يجب عليه اتباع مذهب معين يتقيد به على كل حال، ولا يجوز له الخروج عنه كما هو رأي أغلب المتمذهبين من أتباع الأئمة الأربعة.
ولاسيما الغلاة منهم حيث يقلدون في الصواب والخطأ على السواء دون أن يجتهدوا في معرفة الحكم بدليله الذي يرجحه مع أن كثيراً منهم مؤهلون للبحث والترجيح.
هذا ما جاء في التقليد وذمه، إلا لمن لم يكن عنده آلة الفهم والعلم وأخذ الحكم بدليله كحال أغلب عوام الناس، فيجوز لهم التقليد بشرط عدم التعصب والتحزب والولاء والبراء من أجل أقاويل الناس..
نسأل الله تعالى أن يصلح حالنا، وأن يهب لنا من العلوم ما نتبصر به في ديننا، ربنا اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وأن لا يعبد بالأهواء ولا بالبدع، والصلاة والسلام على من سن الهدى وشرع، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: لقد قسم العلماء التقليد من حيث التزام مذهب بعينه إلى قسمين: القسم الأول: تقليد عام، والقسم الثاني: تقليد خاص.
فالتقليد العام: أن يلتزم مذهباً معيناً يأخذ برخصه، وعزائمه في جميع أمور دينه، وقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من حكى وجوبه؛ لتعذر الاجتهاد في المتأخرين، ومنهم من حكى تحريمه؛ لما فيه من الالتزام المطلق لاتباع غير النبي -صلّى الله عليه وسلّم-؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن في القول بوجوب طاعة غير النبي -صلّى الله عليه وسلّم في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع وجوازه فيه ما فيه"6. وقال أيضاً: "من التزم مذهباً معيناً، ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ولا عذر شرعي يقتضي حل ما فعله، فهو متبع لهواه فاعل للمحرم بغير عذر شرعي، وهذا منكر"7.
وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها، وإما بأن يرى أحد الرجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر، وهو أتقى لله فيما يقوله، فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا، فهذا يجوز بل يجب، وقد نص الإمام أحمد على ذلك.
والقسم الثاني: التقليد الخاص: أن يأخذ بقول معين في قضية معينة فهذا جائز إذا عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد سواء عجز عجزاً حقيقيًّا، أو استطاع ذلك مع المشقة العظيمة.8
أيها الناس: إن الأصل في المسلم أن يطلب العلم، وهو فرض عين في المسائل الكبيرة كأركان الإسلام العظام ولا يجوز له التقليد فيها، كمعرفة الله وتوحيده وإقامة الصلاة والزكاة والصوم والحج، فيجب عليه معرفة أدلة وجوبها، ولا يجوز له التقليد في معرفة الله تعالى، إذ معرفته مبينة على الدليل العقلي والنقلي، وهذا من الأمور العظيمة التي لا ينبغي أن يجهلها مسلم، والجهل بها نوع من الضلال والريبة والشك.. فكلما كان المسلم عالماً فاهماً لدينه بأدلته كان أقرب الناس إلى الاتباع والثبات على ذلك.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 مجموع الفتاوى (19/260).
2 مجموع الفتاوى (29/345).
3 مدارج السالكين لابن القيم (2/388). الناشر : دار الكتاب العربي – بيروت. (1393هـ).
4 أضواء البيان(2/95). للشنقيطي.
5 رواه البخاري واللفظ له ومسلم.
6 الفتاوى الكبرى (5/555). الناشر: دار المعرفة – بيروت. ط:1 (1386هـ). تحقيق: حسنين مخلوف.
7 الفتاوى الكبرى(5/94). ومجموع الفتاوى(20/220).
8 راجع: http://www.ibnothaimeen.com/all/books/article_17752.shtml .. ولمن أراد الاستزادة في مسألة التقليد فليراجع رسالة قيمة للشوكاني بعنوان: "القول المفيد في حكم التقليد"؛ إضافة إلى المراجع التي ذكرناها في الحواشي سابقاً.