الوقيعة في الصحابة

الوقيعة في الصحابة

الوقيعة في الصحابة

 

الحمد لله مختصِّ من يشاء برحمته وملبسِ من سبقت له منه الحسنى أثواب عنايته، ومفضل بعض الخلق بما منهم به من طرائف نعمه ولطائف منته، ومصرف الأحكام في العبيد فمن شقي وسعيد ومقرّب وطريد، لا يسأل عما يفعل ولا راد لمقتضى إرادته، وصلوات الله وسلامه على سيد أنبيائه وأولى أوليائه وصفي صفوته، محمد المنتخل من خلاصة المجد الأثيل، ونبيه المنتخب من أعلى سنام الفخر الأصيل وذروته، وعلى شريف ذريته الطاهرة، وأفنان فنون دوحته الفاخرة، وجميع أهل بيته المعظم وصحبه وأهل ملته، أما بعد:

فاتقوا الله حق التقوى كما أمركم الله بذلك قائلاً سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران.

أيها الناس: إن الله عز وجل قد اختار لرسوله أصحاباً فجعلهم خير الأنام واصطفاهم من خلقه تعالى، فرضيهم لعشرته وموالاته، وفضلهم بالانضمام إليه مدة حياته، وأنعم عليهم بما أولاهم من أصناف موجبات كرمه، وأسعدهم بما سلف في سابق قدم،وأشقى قوماً بوقوعهم في الخوض في أمرهم فيما لا يعنيهم، واجترائهم على الآحاد على التنقص بهم، ووصفهم بما ليس فيهم، حتى لقد فسقوا بظنهم على من علم تعديله، وغضوا بجهلهم على من رضي الله عنهم ورسوله، فجعلوهم غرضاً لبهتانهم العظيم وذموهم.

وقد مدحتهم آيات القرآن الكريم قال الله الملك الجليل: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (29) سورة الفتح، إلى ذلك "مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل" أتراهم خرجوا من هذا الوصف أو خرج عنهم أو اختص به النائي دون القريب، والجليس منهم، أم هل يمكن منهم أن يدعي أن الصحابة لم يشتدوا على الكفار وينصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو يقال إن واحداً منهم لم يكن معه، فغير مسلم إن أريد معية الإسلام والإيمان فهم إليها من أول مجيب أو معية الالتفات والاحتفاف فلهم منها أوفر نصيب، أو يقال بأنهم زايلوا ذلك الوصف بعد وفاته وارتكبوا ما حكم لهم بخلافه من مخالفاته فالنص يدفع ذلك ويرده ويمنع ذا الدين من اعتقاده ويصده قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} (18) سورة الفتح، أترى خفي عن علمه ما يزعمونه من فسقهم أو ردتهم، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100) سورة التوبة، أتراه أعدها لهم مع علمه بما يوجب منعهم منها؟!وأي فائدة الإعلام بها مع ثبوت صرفهم عنها، معاذ الله أن يكون الأمر كذلك، وحاشا لله أن يختار لرسوله صحبة أولئك، وما نقموا منهم مما يوهم ظاهره لو لم يرد ما يعارضه لوجب اعتقاد أحسن الوجوه، وحملها عليه.

فكيف والأدلة الظاهرة تؤكد ذلك، وتقضي بالمصير إليه توفيقاً بين مقطوع الكتاب والسنة، وتصديقاً لشهادته -صلى الله عليه وسلم- لهم بالجنة، كيف وقد علم -صلى الله عليه وسلم- جملة ما وقع منهم، ونبه على كثير مما جرى بينهم وصدر عنهم، حتى صرح بالنهي عن سبهم، وحرص على ترك الخوض فيهم، وأمر بحبهم.

فما للجاهل الغبي ولهم! وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سيغفر لهم، وما للمتعامي وتأويل ما ورد في شأنهم، وتحريفه بعد قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)1 فالحمد لله أن عصمنا من هذه الورطة العظيمة ووفقنا بحب جملتهم إلى سلوك الطريقة المستقيمة.2

أيها الناس:لقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)3 وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).4

ففي هذا الحديث وأمثاله بيان حالة من جعلهم غرضاً بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسبهم وافترى عليهم وعابهم وكفّرهم واجترأ عليهم.

أيها المؤمنون: إن حب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عنوان محبته، وبغضهم عنوان بغضه كما جاء في الحديث الصحيح: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار).5

وما ذاك إلا لسابقتهم ومجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وإنما يعرف فضائل الصحابة رضي الله عنهم من تدبر أحوالهم وسيرهم وآثارهم في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد موته من المسابقة إلى الإيمان، والمجاهدة للكفار ونشر الدين وإظهار شعائر الإسلام وإعلاء كلمة الله ورسوله، وتعليم فرائضه وسننه، ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل ولا فرع، ولا علمنا من الفرائض والسنن سنة ولا فرضاً، ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئاً.6

يقول ابن تيمية -رحمه الله- في معرض الرد على من زعم أن الصحابة أميين: "فإنهم وإن كانوا أميين فمذ بعث الله فيهم رسوله زكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة وفضلهم في العلم والعمل والهدى والمعارف الإلهية والعلوم النافعة المكملة للنفوس على جميع الأمم، فلم تبق أمة من الأمم تدانيهم في فضلهم وعلومهم وأعمالهم ومعارفهم، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة وعلم وهدى وبصيرة إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما؛ وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب والهندسة،.. وغير ذلك من العلوم التي هي بين علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة، وبين علم نفعه في العاجلة وليس من زاد المعاد..

وكيف يكونون عواماً في ذلك وهم أذكى الناس فطرة وأزكاهم نفوساً، وهم يتلقونه غضاً طرياً ومحضاً لم يشب عن نبيهم، وهم أحرص الناس عليه وأشوقهم إليه، وخبر السماء يأتيهم على لسانه في ساعات الليل والنهار والحضر والسفر، وكتابهم قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين..

وكيف يدعى في أصحاب نبينا أنهم عوام وهذه العلوم النافعة المبثوثة في الأمة على كثرتها واتساعها وتفنن ضروبها إنما هي عنهم مأخوذة ومن كلامهم وفتاويهم مستنبطة، وهذا عبد الله بن عباس كان من صبيانهم وفتيانهم وقد طبق الأرض علما، وبلغت فتاويه نحو من ثلاثين سفراً، وكان بحراً لا ينزف، لو نزل به أهل الأرض لأوسعهم علماً.7

فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين، ومرق من ملة المسلمين؛ لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثنائه عليهم وفضائلهم ومناقبهم وحبهم؛ ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور والوسائط من المنقول، والطعن في الوسائط طعن في الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته، وحسبك ما جاء في الأخبار والآثار من ذلك كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله اختارني واختار لي أصحاباً فجعل لي منهم وزراء وأنصار وأصهاراً، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً).8،9

نسأل الله أن ينتقم ممن تعرض لأصحاب نبيه بالتنقص والشتيمة من الرافضة ومن سار في ركبهم، إنه هو القوي العزيز.. نستغفر الله العظيم ونتوب إليه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله المنزه عن أن يكون له نظراء وأشباه، المقدس فلا تقرب الحوادث حماه، الذي اختار الإسلام دينا، وارتضاه، فأرسل به محمد -صلى الله عليه وسلم- واصطفاه، وجعل له أصحاباً فاختار كلا منهم لصحبته واجتباه، وجعلهم منهم من هو كالنجوم بأيهم اقتدى الإنسان اهتدى إلى الحق واقتفاه، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة توجب لهم رضاه، أحمده على نعمه كلها حمدا يقتضي الزيادة من نعمه، ويجزل لنا النصيب من قسمه.10

أما بعد:

في هذه الأيام بالذات ارتفعت الأصوات وكثرت المؤلفات في سب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد حمل لواء ذلك الفرقة الضالة الهالكة وهم الرافضة، مجوس هذه الأمة.

أيها المسلمون: لم ترض النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-! حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل. فما يرجى من هؤلاء، وما يستبقى منهم؟ وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (55) سورة النــور، وهذا قول صدق، ووعد حق.

وقد انقرض عصرهم ولا خليفة فيهم ولا تمكين، ولا أمن ولا سكون، إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة.11

أخرج الحافظ ابن عساكر أن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب قال لرجل من الرافضة: "والله لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم، ثم لا نقبل منكم توبة". فقال له رجل: لم لا تقبل منهم توبة؟ قال: "نحن أعلم بهؤلاء منكم، إن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم، وإن شاءوا كذبوكم، وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في التقية، ويلك! إن التقية هي باب رخصة للمسلم، إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه يدرأ عن ذمة الله، وليست باب فضل، إنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق، وأيم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله!!12

و قال مالك رضي الله عنه: "إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي عليه الصلاة والسلام فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين" أو كما قال.

وذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله بنفسه وماله، ويعينه على إظهار دين الله وإعلاء كلمة الله، وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة وهو حينئذ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته، ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه.

ومعلوم أن رجلاً لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه وعُدَّ ذلك أذى له، وإلى هذا أشار ابن عمر رضي الله عنه حيث قال: "لا تسبوا أصحاب محمد، فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله".13

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم. وأما من لعن وقبح مطلقاً فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد.

وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضاً في كفره؛ لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضا عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفره مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفَّار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (110) سورة آل عمران، -وخيرها هو القرن الأول- كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.

ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال، فإنه يتبين أنه زنديق، وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلات، وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات.14

اللهم سلم سلم، وبارك وأكرم، والحمد لله رب العالمين.



1 رواه البخاري (6137).

2 الرياض النضرة في مناقب العشرة – للمحب الطبري(ج 1 / ص 1) مع بعض التصرف اليسير.

3 سبق تخريجه.

4 رواه البخاري (3470) ومسلم (2540).

5 رواه البخاري (17).

6 الكبائر – لمحمد بن عثمان الذهبي: دار الندوة الجديدة – بيروت (1/236).

7 هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى – لابن تيمية (1/99).

8 رواه الحاكم في المستدرك (6656)، وصححه الذهبي في التلخيص، وضعفه الألباني في ظلال الجنة برقم (1000).

9 الكبائر – (1/237).

10 أسد الغابة: لابن الأثير(1/1).

11 العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- (1/148).

12 تاريخ ابن عساكر (4/165).

13 الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية، دار ابن حزم – بيروت:ط1: 1417هـ- (1/581).

14 المرجع السابق (1/582).