حكم التصوير

حكم التصوير

حكم التصوير

الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد، الموفق من شاء من عباده إلى التمسك بهدي خير العباد، والذي يعصم من آمن به وعمل بشريعته عن طريق الزيغ والفساد، ويجعله في مأمن دائم من أهوال يوم المعاد.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توصل قائلها إلى الخير والسداد، وتقتضي له الرضا من رب العباد الذي خلق فأتقن، وشرع فأحكم، وعلم الإنسان ما لم يعلم، هو الله الخالق البارئ المصور الذي صور جميع المخلوقات والموجودات، فأعطى كل جنس من تلك المخلوقات صورة يختص بها، وهيئة مستقلة يمتاز بها، ولوناً وطبيعة ينفرد بها رغم كثرتها واختلاف أشكالها وألوانها، كل ذلك حسب ما تقتضيه الحكمة البالغة، والمشيئة القاهرة، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، كسر الأصنام، ومحا أثرها، وحذر من صناعتها واتخاذها، وطمس الصور بيده الشريفة، ولطخها خوفاً من مضرتها على العباد وفتنتها؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وعلى سائر عباد الله المخلصين.

أما بعد:

أيها الناس: لقد دلت النصوص الشرعية على أن المصورين من أشد الناس عذاباً؛ فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، وَقَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ)1.

بل جاءت النصوص الشرعية ببيان أن الله يجعل للمصور بكل صورة نفساً يعذب بها في نار جهنم؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كل مصور في النار يُجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب في نار جهنم)2.

وجاء أن المصورين يكلفون بأن ينفخوا في كل صورة صوروها الروح وليسوا بنافخين؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من صوّر صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ فيها أبدا)3.

بل إن النار وكلت بثلاثة؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين)4.

كم أن المصور ملعون على لسان سيد ولد آدم؛ كما في حديث أبي جحيفة قال: "لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله ولعن المصور"5.

بل إن من أظلم الناس من ذهب يخلق كخلق الله؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي! فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة)6..

"وهذه الأحاديث وما جاء في معناها دالة دلالة ظاهرة على تحريم التصوير لكل ذي روح، وأن ذلك من كبائر الذنوب المتوعد عليها بالنار. وهي عامة لأنواع التصوير سواء كان للصورة ظل أم لا، وسواء كان التصوير في حائط أو ستر أو قميص أو مرآة أو قرطاس أو غير ذلك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفرق بين ما له ظل وغيره، ولا بين ما جعل في ستر أو غيره، بل لعن المصور، وأخبر أن المصورين أشد الناس عذابا يوم القيامة، وأن كل مصور في النار، وأطلق ذلك ولم يستثن شيئا"7.

وقد بين العلماء- رحمهم الله- أن التصوير له عدة أحوال:

الحال الأولى: أن يصور الإنسان ما له ظل، أي: ما له جسم على هيكل إنسان أو بعير أو أسد أو ما أشبهها، فهذا أجمع العلماء على تحريمه، فإن قلت: إذا صور الإنسان لا مضاهاة لخلق الله، ولكن صور عبثاً، يعني: صنع من الطين أو من الخشب أو من الأحجار شيئاً على صورة حيوان وليس قصده أن يضاهي خلق الله، بل قصده العبث أو وضعه لصبي ليهدئه به، فهذا يدخل في الحديث؛ لأنه خلق كخلق الله، ولأن المضاهاة لا يشترط فيها القصد، وهذا هو سر المسألة، فمتى حصلت المضاهاة ثبت حكمها، ولهذا لو أن إنساناً لبس لبساً يختص بالكفار، ثم قال: أنا لا أقصد التشبه بهم، نقول: التشبه منك بهم حاصل أردته أم لم ترده ، وكذلك، لو أن أحداً تشبه بامرأة في لباسها أو في شعرها أو ما أشبه ذلك، وقال: ما أردت التشبه، قلنا له: قد حصل التشبه، سواء أردته أم لم ترده.

الحال الثانية: أن يصور صورة ليس لها جسم بل بالتلوين والتخطيط، فهذا محرم لعموم الحديث، ويدل عليه حديث النمرقة حيث أقبل النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى بيته، فلما أراد أن يدخل رأى نمرقة فيها تصاوير، فوقف وتأثر، وعرفت الكراهة في وجهه، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: ما أذنبت يا رسول الله؟ فقال: (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)؛ فالصور بالتلوين كالصور بالتجسيم ، وقوله في " صحيح البخاري": (إلا رقماً في ثوب) إن صحت الرواية هذه، فالمراد بالاستثناء ما يحل تصويره من الأشجار ونحوها.

الحال الثالثة: أن تلتقط الصور التقاطاً بأشعة معينة بدون أي تعديل أو تحسين من الملتقط، فهذا محل خلاف بين العلماء المعاصرين:

فالقول الأول: أنه تصوير، وإذا كان كذلك، فإن حركة هذا الفاعل للآلة يعد تصويراً، إذ لولا تحريكه إياها ما انطبعت هذه الصورة على هذه الورقة، ونحن متفقون على أن هذه صورة، فحركته تعتبر تصويراً، فيكون داخلاً في العموم.

القول الثاني: أنها ليست بتصوير؛ لأن التصوير فعل المصور، وهذا الرجل ما صورها في الحقيقة وإنما التقطها بالآلة، والتصوير من صنع الله.

ويوضح ذلك لو أدخلت كتاباً في آلة التصوير، ثم خرج من هذه الآلة، فإن رسم الحروف من الكاتب الأول لا من المحرك، بدليل أنه قد يشغلها شخص أمي لا يعرف الكتابة إطلاقاً أو أعمى في ظلمة، وهذا القول أقرب؛ لأن المصور بهذه الطريقة لا يعتبر مبدعاً ولا مخططاً، ولكن يبقي النظر: هل يحل هذا الفعل أو لا؟

والجواب: إذا كان لغرض محرم صار حراماً، وإذا كان لغرض مباح صار مباحاً؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وعلى هذا فلو أن شخصاً صور إنساناً لما يسمونه بالذكرى، سواء كانت هذه الذكرى للتمتع بالنظر إليه أو التلذذ به أو من أجل الحنان والشوق إليه، فإن ذلك محرم ولا يجوز لما فيه من اقتناء الصور؛ لأنه لا شك أن هذه صورة ولا أحد ينكر ذلك.

وإذا كان لغرض مباح كما يوجد في التابعية والرخصة والجواز وما أشبهه، فهذا يكون مباحاً، فإذا ذهب الإنسان الذي يحتاج إلى رخصة إلى هذا المصور الذي تخرج منه الصورة فورية بدون عمل لا تحميض ولا غيره، وقال: صورني، فصوره، فإن هذا المصور لا نقول: إنه داخل في الحديث، أي: حديث الوعيد على التصوير، أما إذ قال: صورني لغرض آخر غير مباح، صار من باب الإعانة على الإثم والعدوان..

فهذه أحوال ثلاثة من الأحوال التي يحصل بها التصوير، وسوف يتم التعرض للحالات الأخرى في الخطبة الثانية، إن شاء الله.

ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين..

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

الحال الرابعة من حالات التصوير: أن يكون التصوير لما لا روح فيه، وهذا على نوعين: النوع الأول: أن يكون مما يصنعه الآدمي، فهذا لا بأس به بالاتفاق؛ لأنه إذا جاز الأصل جازت الصورة، مثل أن يصور الإنسان سيارته، فهذا يجوز؛ لأن صنع الأصل جائز، فالصورة التي هي فرع من باب أولى. النوع الثاني: ما لا يصنعه الآدمي وإنما يخلقه الله؛ فهذا نوعان: نوع نام، ونوع غير نام، فغير النامي، كالجبال، والأودية، والبحار، والأنهار، فهذه لا بأس بتصويرها بالاتفاق، أما النوع الذي ينمو، فاختلف في ذلك أهل العلم، فجمهور أهل العلم على جواز تصويره..

وذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى منع تصويره، واستدل بأن هذا من خلق الله -عز وجل-، والحديث عام: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)؛ ولأن الله -عز وجل- تحدى هؤلاء بأن يخلقوا حبة أو يخلقوا شعيرة، والحبة أو الشعيرة ليس فيها روح، لكن لا شك أنها نامية، وعلى هذا، فيكون تصويرها حراماً، وقد ذهب إلى هذا مجاهد رحمه الله أعلم التابعين بالتفسير، وقال: إنه يحرم على الإنسان أن يصور الأشجار، لكن جمهور أهل العلم على الجواز.

عباد الله: وهناك مسألة تتعلق بالتصوير، وتلك المسألة هي: حكم اقتناء الصور؛ فقد بين العلماء إن اقتناء الصور غير جائز، وذكروا في هذه المسالة تفاصيل، وقسموا اقتناء الصور إلى عدة أقسام:

القسم الأول: أن يقتنيها لتعظيم المصور، لكونه ذا سلطان أو جاه أو علم أو عبادة أو أبوة أو نحو ذلك ، فهذا حرام بلا شك، ولا تدخل الملائكة بيتاً فيه هذه الصورة؛ لأن تعظيم ذوي السلطة باقتناء صورهم ثلم في جانب الربوبية وتعظيم ذوي العبادة باقتناء صورهم ثلم في جانب الألوهية.

القسم الثاني: اقتناء الصور للتمتع بالنظر إليها أو التلذذ بها، فهذا حرام أيضاً، لما فيه من الفتنة المؤدية إلى سفاسف الأخلاق.

القسم الثالث: أن يقتنيها للذكرى حناناً أو تلطفاً، كالذين يصورون صغار أولادهم لتذكرهم حال الكبر، فهذا أيضاً حرام للحوق الوعيد به في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة).

القسم الرابع: أن يقتني الصور لا لرغبة فيها إطلاقاً، ولكنها تأتي تبعاً لغيرها، كالتي تكون في المجلات والصحف ولا يقصدها المقتني ، وإنما يقصد ما في المجلات والصحف من الأخبار والبحوث العلمية ونحو ذلك، فالظاهر أن هذا لا بأس به؛ لأن الصور فيها غير مقصودة، لكن إن أمكن طمسها بلا حرج ولا مشقة، فهو أولى.

القسم الخامس: أن يقتني الصور على وجه تكون فيه مهانة ملقاة في الزبل، أو مفترشة، أو موطوءة، فهذا لا بأس به عند جمهور العلماء، وهل يلحق بذلك لباس ما فيه صورة؛ لأن في ذلك امتهاناً للصورة ولا سيما إن كانت الملابس داخلية..8.

وفي الأخير -عباد الله- فإن الواجب علينا طاعة الله وطاعة رسوله، والاستجابة لهما: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} سورة الأنفال(24). كما يجب علينا أن نقول سمعنا وأطعنا، وأن نطيع رسول الله حيث أمرنا بطمس الصور، وإزالتها، فيجب على من كان لديه صور أن يتلفها، وأن يزيلها؛ وأن يطمسها؛ لما روى مسلم في صحيحه عن حيان بن حصين قال: قال لي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته"..

والله نسأل أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

اللهم أعزّ الإسلام وانصر المسلمين، واجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، واخذل الكافرين، وارحم عبادك الموحدين.

اللهم انصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان.

اللهم اجعل لهم ولإخوانهم الأسرى من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل عسر يسرا، ومن كل بلاء عافية، ومن كل صعب سهلاً.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

 


 


1 رواه البخاري.

2 رواه مسلم.

3 رواه البخاري ومسلم.

4 رواه الترمذي. وقال: "حديث حسن غريب صحيح". وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الجامع، رقم (8051). وفي صحيح الترغيب والترهيب، رقم(3061).

5  رواه البخاري.

6 أخرجه البخاري ومسلم.

7  نقلا عن موقع الشيخ عبد العزيز بن باز على شبكة الإنترنت.

8 هذه الأحوال والتقسيمات ذكرها العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- في: "القول المفيد شرح كتاب التوحيد" (2/)..