التكليف وعلاقته بالصوم

التكليف وعلاقته بالصوم

التكليف وعلاقته بالصوم

(فرضية الصيام)

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}3. أما بعد:

أيها الناس: إنَّ الله -تعالى- ارتضى من الأديان دين الإسلام، وبين ما يحل وما يحرم فعله في الإسلام، وجعل بناءه يقوم على قواعد خمس عظام، وجعل صيام رمضان أحد مبانيه؛ قال العلامة حافظ حكمي-رحمه الله-:

 

فقـد أَتى الإسـلام مبنياً على

 

خمس فحقق وادر ما قد نُقـلا

أولهـا الركن الأسـاس الأعظم

 

وهو الصراط المستقيم الأقـوم

ركن الشهادتين فاثبت واعتصم

 

بالعروة الوثقى التي لا تنفصـم

وثـانيـاً إقـامـة الصــلاة

 

وثـالثـاً تأديــة الـزكـاة

والرابع الصـيام فاسمـع واتبع

 

والخامس الحج على من يستطع

 وقد كان الصيام مشروعاً على من سبقنا من الأمم، وفرض علينا- أمة الإسلام- صيام شهر رمضان، تزكية للنفوس، وتحقيقاً للتقوى، وتنقية للنفس من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}4.

وغير ذلك من الفوائد الدينية والدنيوية. وهو مع ذلك –سبحانه- قد يسر صيامه للعباد، فجعله شهراً واحداً في السنة؛ فقال تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}؛ ورخص الفطر فيه لأهل الأعذار، فله الحمد على نعمة الإسلام.

 

أيها الناس: إن صيام رمضان ركن من أركان الإسلام الخمسة، كما في الحديث المتفق عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)5.

وكانت فرضيته يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شعبان، من السنة الثانية من الهجرة.6

أيها المؤمنون عباد الله: ويثبت شهر رمضان برؤية هلاله فإن غُمت رؤيته في اليوم التاسع والعشرين من شعبان أكملت عدة شعبان ثلاثين يوماً، لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)7. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوموا حتى تروا الهلالَ، ولا تفطروا حتى تروه، فإن أُغمي عليكم فاقدروا له)8

 

ويثبت شهر رمضان برؤية الهلال من قبل شخص واحد مسلم عدل، كما في الحديث: جاء رجل أعرابي من البادية فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رأى الهلال فأمرَ صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذِّن بالصيام.9

وعن ابن عمر قال: تراءى الناسُ الهلالَ فأخبرتُ رسولَ الله أني رأيته، فصام وأمر الناس بالصيام10.

وهذه الرؤية والشهادة من هذا المسلم العدل تُلزم جميع من يسمع بها من أفراد ومجتمعات الأمة على اختلاف أمصارهم ودولهم، وهذا متيسر في زماننا -ولله الحمد- بحكم توفر وسائل الإعلام التي تقدر على نقل الأخبار خلال ثوانٍ معدودات، وبالتالي لا عذر للدول المعاصرة أن تصوم وتُفطر كل دولة بحسب رؤيتها الخاصة بها، فهذا من التفرق في الدين، وهو بخلاف السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

بل الملاحظ في كثير من الأحيان يكون تحديد مثل هذه الأحكام والأوقات الشرعية –وللأسف- خاضعاً لأهواء الساسة في بلاد المسلمين؛ إذ تحملهم الخلافات السياسة الخاصة فيما بينهم على الاختلاف في تحديد وقت دخول رمضان ووقت انتهائه ودخول العيد، لينعكس ذلك على شعوبهم تفرقاً وعداوة وبغضاء.

أيها الناس: وإنما يجب الصيام على المسلم، العاقل، البالغ، القادر.

يجب على المسلم: لأن الكافر لا يُقبل منه عمل، والشرك يُحبط الأعمال كلها، لقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}11. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}12.

ويجب على العاقل؛ لأن المجنون يُرفع عنه القلم، ويسقط عنه التكليف، لقوله صلى الله عليه وسلم: (رُفع القلم عن ثلاثة: -منها- وعن المجنون حتى يعقل)13.

ويجب على البالغ؛ لأن القلم يُرفع عن الصبي وكذلك البنت إلى أن يدركا سن البلوغ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (رُفع القلم عن ثلاثة –منها- وعن الصبي حتى يحتلم)14. وفي رواية: (عن المعتوه حتى يعقل)15.

ويجب على القادر؛ لأن العجز يُسقط التكليف باتفاق أهل العلم، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}16. وقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا}17. وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}18.

وفي الحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم)19 متفق عليه.20

 

أيها الناس: إن الصيام من أعظم الأسباب التي تعين العبد على القيام بأوامر الدين، وقد ذكر العلماء رحمهم الله بعض الحكم من مشروعية الصيام، وكلها من خصال التقوى، ولكن لا بأس من ذكرها، ليتنبه الصائم لها، ويحرص على تحقيقها، فمن حكم الصوم –عباد الله-:

أن الصوم وسيلة إلى شكر النعم , فالصيام هو كف النفس عن الأكل والشرب والجماع , وهذه من أجل النعم وأعلاها , والامتناع عنها زمانا معتبرا يعرف قدرها , إذ النعم مجهولة, فإذا فقدت عرفت, فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر.

 

ومن الحكم أيضاً: أن الصوم وسيلة إلى ترك المحرمات؛ لأنه إذا انقادت النفس للامتناع عن الحلال طمعاً في مرضاة الله تعالى , وخوفاً من أليم عقابه , فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام, فكان الصوم سببا لاتقاء محارم الله تعالى.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم إنه جواد كريم ملك برٌ رؤوف رحيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده والصلاة، والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

أيها الناس: ومن الحكم في الصوم: التغلب على الشهوة؛ لأن النفس إذا شبعت تمنت الشهوات, وإذا جاعت امتنعت عما تهوى , ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج ; فإنه أغض للبصر , وأحصن للفرج , ومن لم يستطع فعليه بالصوم , فإنه له وجاء )21 .

والصوم موجب للرحمة والعطف على المساكين , فإن الصائم إذا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات , ذكر من هذا حاله في جميع الأوقات , فتسارع إليه الرقة عليه , والرحمة به , بالإحسان إليه , فكان الصوم سببا للعطف على المساكين.

 

وفي الصوم قهر للشيطان، وإضعاف له , فتضعف وسوسته للإنسان، فتقل منه المعاصي، وذلك لأن (الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)22 كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فبالصيام تضيق مجاري الشيطان فيضعف، ويقل نفوذه .

قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى": "ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين -الذي هو الدم- وإذا صام ضاقت مجاري الشياطين، فتنبعث القلوب إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات" اهـ بتصرف.23

 

ومن الحكم -عباد الله-: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه.

أيها المؤمنون: وفي الصيام التزهيد في الدنيا وشهواتها، والترغيب فيما عند الله تعالى.

وفيه تعويد المؤمن على الإكثار من الطاعات؛ وذلك لأن الصائم في الغالب تكثر طاعته فيعتاد ذلك.

فهذه بعض الحكم من مشروعية الصيام، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لتحقيقها ويعيننا على حسن عبادته.

اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا، واجعلها خالصة لوجهك وابتغاء مرضاتك.

اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك؛ لإعزاز دينك في كل مكان يا عزيز يا قدير.

أيها الناس: صلوا وسلموا على المصطفى الأمين صاحب الحوض المورود واللواء المعقود كما أمركم الله تعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}24.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1 (102) سورة آل عمران.

2 (1) سورة النساء.

3 (70-71) سورة الأحزاب.

4 البقرة: 183.

5 رواه البخاري (8) ومسلم (16) واللفظ للبخاري.

6 فقه السنة للسيد سابق: دار الفتح للإعلام العربي: ط21: 1420هـ-1999م، (1/305).

7 رواه البخاري (1810) ومسلم (1080) واللفظ للبخاري.

8 رواه البخاري (1807) ومسلم (1080).

9 رواه الحاكم في المستدرك (1544).

10 رواه أبو داود (2342).

11 (88) سورة الأنعام.

12 (65) سورة الزمر.

13 رواه أبو داود (4403) وصححه الألباني.

14 الحديث السابق.

15 رواه الترمذي (1423) صححه الشيخ الألباني.

16 (286) سورة البقرة.

17 (7)سورة الطلاق.

18 (16)سورة التغابن.

19 رواه البخاري (6858) ومسلم (1337).

20 من مقال لأبي بصير الطرطوس بعنوان(أحكام ومسائل رمضانيَّة) بتصرف.

21 رواه البخاري (4778) ومسلم (1400).

22 رواه البخاري (6750).

23 مجموع الفتاوى (25/246).

24 (56) سورة الأحزاب.