بنو إسرائيل والبقرة

بنو إسرائيل والبقرة

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:

فقد ذكر الله في كتابه العظيم قصصاً كثيرة، كان أكبر غرض منها هو الاعتبار والتفكر بمصير السابقين، سواءً كانوا مؤمنين أو كافرين، فالمؤمن الحازم يأخذ من القصص ما يسلك به صراط الله، ويجتنب سبل الظالمين الذين طغوا وبغوا فأرداهم بغيهم وظلمهم في الحافرة، فما كان في هذه القصص من مدح وثناء لأهلها سلك المؤمن ذلك السبيل، وما كان فيها من ذم ولعن اجتنب ذلك الطريق، وهي في نفس الأمر زجر للكافرين من التمادي في الضلال والعمى، وتذكيرهم بسنن الله في الكون التي لا تحابي أحداً.. وقد ذكر الله قصة من أعجب القصص حدوثاً، فهي تبين لنا ذلك الجيل الذي وصل به الحد إلى التمرد وكثرة السؤالات والتعنت الرهيب، الذي لم يحصل من كثير من أمم الأرض.. أولئك القوم الذي آذوا كل الناس.. وليس الناس فحسب بل وصل اتهامهم ووصفهم الله بصفات لا تليق بالبشر فضلاً عن رب البشر!! وصفوا الله بالبخل وبالتعب وأنه تعالى فقير، وهم أغنياء..! هؤلاء هم اليهود الذي يعيثون في الأرض فساداً.. إن ذلك الصنف من الناس لم ينسَ اليوم تلك الصفات القبيحة التي مضت في أسلافهم، بل لا زالت المصائب تصدر منهم عبر التاريخ… وكل فساد في الأرض لا بد أن يشتركوا فيه، ولكن.. {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[المائدة: 64].

نقف إن شاء الله مع قصة اليهود – بني إسرائيل- مع موسى عليه السلام، في قصة أمرهم بذبح البقرة، ونرى كيف تعنتوا وأكثروا الأسئلة حتى شدد الله عليهم، وسوف نأخذ القصة بتفاصيلها، كما ذكر ذلك القرآن العظيم، ونأخذ بعض روايات العلماء في ذلك من أئمة التفسير والحديث وغيرهم.. ولا بأس من التحديث عن بني إسرائيل كما قال صلى الله عليه وسلم: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج))1. وفي حديث آخر: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم))2.

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[البقرة: 67]. الآيات..

قال السدي في قول الله عز وجل: {وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم..}: كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبى أن يزوجه فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته، فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض بني إسرائيل فقال: يا عم انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أن أصيب منها، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع الفتى ليلاً فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو؟ فلم يجده، فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه فأخذهم، وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته! فجعل يبكي ويحثوا التراب على رأسه وينادي: واعماه! فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه، فيؤخذ صاحب القضية، فو الله إن ديته علينا لهينة، ولكن نستحي أن نعير به، فذلك حين يقول الله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} فقال لهم موسى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول: اذبحوا بقرة، أتهزأ بنا!؟ {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين}. قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا وتعنتوا على موسى فشدد الله عليهم، فقالوا: {ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراءُ فاقعٌ لونها}. قال: نقي لونها {تسر الناظرين} قال: تعجب الناظرين.3

قال الماوردي: وإنما أمروا – والله أعلم- بذبح بقرة دون غيرها، لأنه من جنس ما عبدوه من العجل؛ ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، وليعلم إجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته، وهذا المعنى علة في ذبح البقرة، وليس بعلة في جواب السائل، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.

قال القرطبي رحمه الله:

وقوله تعالى: ((أتتخذنا هزواً)) هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال لهم: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وذلك أنهم وجدوا قتيلاً بين أظهرهم قيل اسمه: عاميل واشتبه أمر قاتله عليهم، ووقع بينهم خلاف، فقالوا: نقتتل ورسولنا بين أظهرنا؟! فأتوه وسألوه البيان – وذلك قبل نزول القسامة في التوراة – فسألوا موسى أن يدعو الله، فسأل موسى عليه السلام ربه فأمره بذبح بقرة، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده، قالوا: أتتخذنا هزواً؟ لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل؛ فاستعاذ منه عليه السلام؛ لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء، والجهل نقيض العلم، فاستعاذ من الجهل، كما جهلوا في قولهم: أتتخذنا هزواً؟ لمن يخبرهم عن الله تعالى، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله، ولا يصح إيمان من قاله لنبي قد ظهرت معجزته وقال: إن الله يأمركم بكذا، أن يقول: أتتخذنا هزواً؟ .. ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، لوجب تكفيره، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم قسمة غنائم حنين: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، وكما قال له الآخر، اعدل يا محمد، وفي هذا كله أدلَّ دليل على قبح الجهل، وأنه مفسد للدّين.4

قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ}[البقرة: 68].

هذا تعنيت منهم وقلة طواعية واستجابة، ولو استجابوا من أول مرة لسهلت الأمور عليهم، ولكن تعنتوا وشددوا فشدد الله عليهم، وفي ديننا الحنيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: ((دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)).5

وقال صلى الله عليه وسلم: ((اتركوني ما تركتكم، فإذا حدثتكم فخذوا عني؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم)) 6.7

فهذه الأحاديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن التشديد وكثرة الأسئلة، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ}[المائدة: 101-102].

بعد هذا التعنت والسؤال المقيت أجابهم الله على لسان نبيه موسى عليه السلام: {إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر}. قال أبو العالية، والسدي، ومجاهد، وعكرمة، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني، ووهب بن منبه، والضحاك، والحسن، وقتادة، وابن عباس: لا فارض ولا بكر أي: لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل.8

وعن ابن عباس في قوله: {عوان بين ذلك} نصف بين الكبيرة والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون.. وقال الحسن البصري: كانت بقرة وحشية.

قال القرطبي رحمه الله: والفارض: المسنة، وقد فرضت تفرض فروضاً أي أسنت، ويقال للشيء القديم فارض، قال الراجز:

شيَّب أصداغي فرأسي أبيض *** محامل فيها رجال فرَّض

يعني: هرْمى، وقيل الفارض التي قد ولدت بطوناً كثيرة، فيتسع جوفها لذلك؛ لأن معنى الفارض في اللغة: الواسع، قاله بعض المتأخرين، والبكر الصغيرة التي لم تحمل، وحكى القتبي أنها التي ولدت، والبكر الأول من الأولاد، والبكر أيضاً في إناث البهائم وبني آدم: مالم يفتحله الفحل.. والعوان: النصف التي قد ولدت بطناً أو بطنين.9 والمعنى متقارب في ما سبق من الأقوال.

وقوله تعالى: {فافعلوا ما تؤمرون} تأكيد للأمر بفعل ما أمروا به.

قوله تعالى: {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها..} الآية.

طلبوا من موسى – زيادة في التعنت وكثرة السؤالات- وصفاً آخر لهذه البقرة التي أمروا بذبحها، فقالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ فأجابهم الله تعالى وتقدس على لسان موسى: {قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها} أي صفراء اللون: حتى القرن والظّلف..

قال ابن عباس: (فاقع لونها) شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض… وقوله: {تسر الناظرين}: أي تعجبهم من حسن منظرها وجمال لونها.

قال ابن عباس: من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها، وذلك قوله تعالى: {تسر الناظرين}.

وقوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}.

لم يكتفوا بالبيان السابق الذي قد وضح لهم أيما إيضاح، فسألوا السؤال الرابع. سألوا عن هذه البقرة؛ لأن البقرة تشابه عليهم، فلم يميزوا بينه لكثرته، وقوله: البقر: جمع بقرة، يقال للبقر الكثير، بقر وباقر وباقور، كما قال قطرب. وقوله تعالى: {وإنا إن شاء الله لمهتدون} أي إذا بينتها لنا – مع أنها قد بانت أولاً- فإنا إن شاء الله لمهتدون إليها وفاعلون ما أمرنا به.. وقد جاء في الحديث: أنهم لو لم يستثنوا أي لم يقولوا إن شاء الله – لما هدوا إليها أبداً. وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر10.

قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}[البقرة: 71].

أي أنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدَّة للسقي في الساقية، بل هي مكرّمة حسنة صبيحة مسلَّمة صحيحة لا عيب فيها {لا شية فيها} أي ليس فيها لون غير لونها. قال قتادة: {مسلَّمة} لا عيب فيها، وقال مجاهد: لا بياض ولا سواد11.

قال القرطبي: ومعنى {لا ذلول} لم يذللها العمل، يقال: بقرة مذلَّلة بيّنة الذِّل (بكسر الذال) ورجل ذليل بيِّن الذُّل (بضم الذال) أي هي بقرة صعبة غير رَيَّضة لم تذلل بالعمل، قال الحسن: وكانت تلك البقرة وحشية، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها.. والوقف ههنا حسن، ومعنى هذا أن الوقف عند قوله تعالى: {تثير الأرض} لكونها صفة للبقرة أي أنها لا تثير الأرض لقوله: (لا ذلول) أي غير مذللة للحرث ولا للسقي عليها.. وقد ذكر القرطبي أن من أجاز الوقف عند (لا ذلول) يتأول له بأن الإثارة هنا للمرح والنشاط، وليست للزراعة، فالبقرة تثير التراب من القفز والركض لعباً ونشاطاً كما قال الشاعر:

تثير النقع موعدها كداء.

فالإثارة على هذا القول ليس لأجل الزراعة؛ لأنه وصف البقرة بأنها لم تذلل لا لسقي ولا لحرث، والله أعلم.

قوله: {لا شية فيها} الشية مأخوذة من وشْي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين، قال ابن عرفة: الشية: اللون.

قوله تعالى: {قالوا الآن جئت بالحق}، أي بينت لنا ما أمرنا به فاتضح الحق.

قوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} قال ابن عباس: كادوا أن لا يفعلوا – ولم يكن ذلك الذي أرادوا – لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها، يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت فلهذا ما كادوا يذبحونها12.

وقد رويت أقاويل عن بعض المفسرين تنسب إلى الإسرائيليات: أنهم ما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها، فإنه قد ورد أن صاحبها طلب منهم وزنها ذهباً، وفي رواية أنه طلب ملء جلدها ذهباً، وفي رواية أخرى: أنه طلب عشرة أمثال وزنها ذهباً، فالله أعلم.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة: 72].

قال البخاري رحمه الله: {فادارأتم فيها}. أي اختلفتم وهكذا، قال مجاهد.

وقال عطاء والضحاك: اختصمتم فيها.. والتدارؤ هو التدافع، أي كل فريق منهم يقول للآخر أنتم الذين قتلتموه، فيدرأ كل قوم قول الآخرين، ومن هذا قول الله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}[النور: 8]. أي يدفع ويرفع..

{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة: 72] فيها دليل على علم الله المطلق الذي قد أحاط بكل شيءٍ، فسبحان من يعلم كمائن النفوس وخفايا الأشياء كلها صغيرها وكبيرها..

وكان الذين كتموه هو القاتل.. فلما أمر الله بضرب جزء منها بالميت قام فأخبر بقاتله، فكان ذلك ما كتموه.. لقد كان هذا المجتمع مجتمعاً فاسداً كما هو الحال في كثير من مجتمعات الأمم اليوم: كتمان الحقائق والخوف من عواقبها، حتى صار الأمر شائعاً في كافة بقاع الأرض إلا من هدى الله، وهم القلة القليلة..

{فقلنا اضربوه ببعضها} وفي هذا معجزة قوية لهذا النبي الكريم، وهي تدل على قدرة الله التي لا يقف دونها شيء.. قدرة لا كالقدرات البشرية الهزيلة.. إنها قدرة من يقول للشيء كن فيكون!

وبمجرد أن ضربوه بجزء من بدنها قام مباشرة.. يا للقوة.. ويا لعظمة الموقف.. ميت يضرب بميت ثم يكون حياً.. إنها معجزة كبرى وآية عظمى..! وقد قيل: إن الذي ضربوه به هو اللسان؛ لأنه آلة الكلام، وقيل بعجب الذنب (العصعص) إذ فيه يركب خلق الإنسان، وقيل بالفخذ.. إلخ. ولا يهمنا أي الأجزاء ضرب به؛ لأنه لم يرد في الشرع. والبحث عن ذلك نوع من التكلف..

{كذلك يحيي الله الموتى} أي لما ضربوه حيَّ وقام.. وقد نبههم الله على قدرته على إحياء الموتى بهذه الحادثة، أي: كما أحيا هذا بعد موته، كذلك يحيى الله كل من مات. وقوله: (آياته) أي علامات قوته وقدرته على كل شيء..

قال ابن كثير رحمه الله: والله قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع: {ثم بعثناكم من بعد موتكم} وهذه القصة، وقصة {الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}، وقصة {الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها} وقصة إبراهيم والطيور الأربعة.13

ثم قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة: 74].

بين تعالى تعنت اليهود وقسوة قلوبهم، مع ما رأوه في بديع صنع الله من إحياء الموتى أمامهم، فلم يجدِ عنهم شيئاً.. وهذا يدل على قسوة القلوب وضعف الإيمان، وكره الحق وأهله.. فقاتل الله اليهود… ولعلنا نصل إلى هذا الحد في ذكر تفسير قصة البقرة في سورة البقرة والتي اشتملت على كثير من العبر والدروس..

والعلماء قد استنبطوا عدة أحكام من هذه القصة:

المسألة الأولى: قال العلماء: هل شرع من قبلنا شرع لنا حتى يثبت نسخه أم لا؟

في ذلك خمسة أقوال:

الأول: أنه شرع لنا ولنبينا؛ لأنه كان متعبداً بالشريعة معنا، وبه قال طوائف من المتكلمين، وقوم من الفقهاء.. وهو الذي تقتضيه أصول مالك، وإليه ميل الشافعي رحمه الله.

الثاني: أن التعبد وقع بشرع إبراهيم عليه السلام… اختاره جماعة من أصحاب الشافعي.

الثالث: أنا تعبدنا بشرع موسى عليه السلام.

الرابع: أنا تعبدنا بشرع عيسى عليه السلام.

الخامس: أنا لم نتعبد بشرع أحد – أي ليس بشرع لنا- ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بملة بشر، وهذا الذي اختاره القاضي أبوبكر المالكي رحمه الله.

وقد رجح ابن العربي المالكي14 والقرطبي15 في تفسيرهما القول الأول: أنه شرع لنا إذا لم يثبت في شرعنا ما يخالفه.. أو ينسخه..

المسألة الثانية: في قوله تعالى: {قالوا أتتخذنا هزواً} دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين، ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد، وليس المزاح من الاستهزاء، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده؟!.. ذكره القرطبي.

وقد وردت آيات تنهى عن الاستهزاء بالدين وشعائره، كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}[التوبة: 65] وهو كفر بالله، إذا كان الاستهزاء بالدين أو شعائره؛ لأنه يقتضي إهانته وعدم تعظيمه، ولهذا قال: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[التوبة: 66].

المسألة الثالثة: استدل العلماء بهذه الآيات على جواز السلم في الحيوان، إذا حصرت وضبطت صفاته، وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي. وكذا كل ما يضبط بالصفة، لوصف الله البقرة في كتابه وصفاً يقوم مقام التعيين، وذهب الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح إلى عدم جواز السلم في الحيوان، قالوا: لأن الحيوان لا تنضبط أوصافه على الحقيقة من مشي وحركة، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته.16

المسألة الرابعة: لما ضرب بنو إسرائيل الميت بتلك القطعة من البقرة، قال: دمي عند فلان؛ فتعين قتله.. قد استدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه على صحة القول بالقسامة.. والقسامة هي: أن يشتبه القاتل فيقول: أولياء المقتول: قتله فلان.. فينفي الآخرون ذلك فيحلف أولياء الدم خمسين يميناً أن ذلك قاتله، فإن نكلوا وتراجعوا عن اليمين حلف المدعى عليهم- المتهمون- خمسون يميناً وبرؤوا.. وهو قول الجمهور.. وذهب الكوفيون والثوري والشعبي والنخعي وغيرهم إلى أنه يبدأ المدَّعى عليهم فيحلفون ويبرؤون. ولكل أدلة ومآخذ على غيرهم انظر ذلك في كتب الفقه وكذا ما ذكره القرطبي في تفسيره وافياً.

هذا ما أخذه العلماء من فوائد فقهية من قصة البقرة… ولعل ههنا فوائد إيمانية وتربوية وسلوكية لا يتسع المقام لذكرها.

نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجنبنا موارد غضبه، وسبل الضلالة، والحمد لله..


1 رواه البخاري (3274).

2 رواه البخاري (4215).

3 تفسير ابن كثير (1/113).

4 تفسير القرطبي (1/445).

5 رواه البخاري (6858) ومسلم (1337).

6 رواه الترمذي (2679)، وصححه الألباني.

7 تفسير القرطبي (1/448-449).

8 تفسير ابن كثير (1/114).

9 تفسير القرطبي (1/448-449).

10 تفسير القرطبي (1/ 452).

11 تفسير ابن كثير (1/115).

12 تفسير ابن كثير (1/115).

13 ابن كثير (1/116).

14 تفسير ابن العربي (1/38) وقد ذكرت الأقوال في كتابه.

15 تفسير القرطبي (1/462).

16 تفسير القرطبي (1/453-454).