ما أحوجنا إلى الإخلاص

ما أحوجنا إلى الإخلاص

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحداً، أمر بإخلاص العبادة له فقال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل قبول الطاعة متعلقاً بالإخلاص له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أمره الله بالإخلاص له فقال: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ[الزمر: 2]، وعلى آله وأصحابه المؤمنين المخلصين يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:

عباد الله: إن الله تعالى لما أمرنا أن نعبده وأن نطيعه؛ جعل لذلك مقياساً يقاس به أعمال الناس وعباداتهم، وطاعاتهم، فما كان منها على هذا الشرط أو هذا المقياس فهو مقبول، وما كان منها على غير ذلك فهو مردود على صاحبه، فيا ترى ما هو هذا الشرط، وأي مقياس الذي به قبول الأعمال وردها؟

إنه الإخلاص، والمتابعة.

نعم عباد الله!! الإخلاص أساس الدين، وركنه المتين، وهو روح العبادة، وشرط قبولها، والإخلاص هو الذي يزكي الأعمال، ويطهرها، وينميها، فيبارك الله فيها، وينفع بها، والإخلاص هو الذي أمر الله العباد بالتزامه، وهو الذي ابتلاهم به فقال في كتابه الكريم: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك: 2]، وقوله تعالى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7]، قال ابن كثيرٍ – رحمه الله تعالى – في تفسيره لهذه الآية الكريمة مبيناً هذا الأمر العظيم، والركن المتين: “لم يقل أكثر عملاً بل أحسن عملاً، ولا يكون العمَلُ حسنًا حتى يكون خالصًا لله ​​​​​​​ على شريعةِ رسول الله ، فمتى فقَد العمل واحدًا من هذين الشّرطين حبط، وبطل”1، وقال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: “أَخلَصُه وأصوَبُه، فإذا كان العمل خالصًا ولم يكُن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل، فلا بدّ أن يكون خالصًا، صوابًا”2 فالإخلاص أساس قبول عمل العبد، وهو مهم في حياة المسلم، لأن المسلم في عبادة دائمة لله ​​​​​​​، فإذا لم يكن مع تلك العبادة إخلاص ومتابعة فإنه إنما يتعب نفسه بدون فائدة تعود عليه في الدنيا والآخرة، فقد يأتي بأعمال كالجبال قد راءا بها ولم يخلص لله فيها؛ فيجعلها الله هباءً منثورا.

أيها المسلمون: إنه لا يخفى عليكم ما يجب على المسلم من طاعات وعبادات في اليوم والليلة، فهو في صلاة، وصيام، وصدقة، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وغيره من الأعمال الصالحة؛ إلا أنه يجب علينا أن نلفت نظرك وانتباهك – أخي الكريم – إلى أمر هو ملازم لهذه الأعمال، ومرتبط بها، ولن تقبل بغيره، ألا وهو الإخلاص؛ لأن مما يؤسف له اليوم أن من المسلمين من يعمل هذه الأعمال من العبادات وكأنها عادات تربوا عليها، ونشؤوا في ظلها، فلم ينتبهوا للإخلاص فيها، أو أنهم يعملونها من أجل أن يمدحهم الناس، أو تحصل لهم من ورائها أهداف كأن يقال رجل صالح وأمين فهو يستحق أن يوظف، أو يقال رجل صالح يجب أن يحترم، أو غيرها من الأهداف والأغراض، فتصير هذه الأعمال هباءً منثوراً؛ وهذا ما يسمى بالشرك الخفي، فالواجب على المسلم أن يقصد الله  وحده بالعبادة في قوله، وعمله، وجهاده، ودعوته، وسائر أعماله، وأن يتبرأ من كل ما سوى الله، وذلك لا يكون إلا بإخلاص النية لله، وتخليصها من كل غرض دنيوي قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ۝ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162-163]، وقال الله تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ[البينة:5].

فالإخلاص عباد الله: هو أن يكون سكون العبد وحركاته لله – تعالى -، وقيل: هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ، فالعبد يقصد بقوله، وفعله، وجهاده؛ وجه الله، وابتغاء مرضاته، من غير نظر إلى مغنم، أو مظهر، أو جاه، أو لقب، أو تقدم، أو تأخر، أو ذكر قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ۝ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162-163].  

والإخلاص محله القلب فقد قال عليه الصلاة والسلام: إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم3، وعن عمر بن الخطاب  قال: سمِعت رسولَ الله  يقول: إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هِجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينكِحها فهِجرته إلى ما هاجَر إليه4.

فالرياء مِعْول هدم للأعمال الصالحة، وأساس خرابها ودمارها، فقد يكون العمل بصورة واحدة ولكن يختلف الحكم عليه بالإخلاص، فهاهم المنافقون في عهد رسول الله  كانوا يصلون معه ومع أصحابه جنباً إلى جنب في جميع الأوقات، لكن ماذا قال الله فيهم لفساد نياتهم، وعدم إخلاصهم لله ​​​​​​​: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، بل وأعظم من هذا فقد يكون الواحد منهم قاتل في سبيل الله، وقرأ القرآن، وتصدق في وجوه الخير، ولكن ما هي النتيجة إذا لم يكن هناك إخلاص لوجه الله – تعالى -، يخبرنا عن هذا المصطفى  حيث جاء من حديث أبي هريرة  أنه قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتي به، فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثمَّ أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم، ليقال: عالمٌ، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار5. عباد الله انظروا وتدبَّروا في هذه الأعمال، أليست أعمال صالحة، أليست أعمال خير، بلى، ولكن ما هو السبب في أن أصحابها أول من تسعر بهم النار يوم القيامة؟ إنه غياب الإخلاص لله، ووجود الرياء والسمعة، فهذه الأعمالَ لمّا تجرَّدت من الإخلاص، وخالَطَها الرّياء؛ صار أصحابُها من المطرودِينَ الخاسرين، ولو أنها أريد بها وجهُ الله والدار الآخرة، وكان الإخلاص روحَها ومبناها، لكان أصحابُها منَ الفائزين المقرَّبين.

ثم انظروا عباد الله: إلى هذه الأعمال العظيمة: الجهاد، وقراءة القرآن, والصدقة، عندما غاب عنها الإخلاص فكانت نهاية أصحابها النار، وإلى سقي الرجل للكلب عندما وجد فيه الإخلاص لله – تعالى – فكانت نهاية صاحبه الجنة فعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفّه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له6.

فأخلص في عملك عبد الله، فإن الله يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، ثم اعلم أنه لن يقبل لك عمل إلا أن يكون خالصاً لوجه الله الكريم، فهو الميزان يوم القيامة، وهو المقياس، وقد سمعت الأحاديث في حق أصحاب النيات الفاسدة وإن كان ظاهر الأعمال الصلاح إلا أنه أفسدها الرياء والسمعة، فخابوا أصحابها وخسروا، وكيف أن أصحاب الإخلاص دخلوا الجنة بسبب إخلاصهم في عملهم، وإن كان عملاً بسيطاً إلا أنه لوجه الله، فاعمل جاهداً على مجاهدة نفسك بالإخلاص؛ فإنها نفس أمارة بالسوء تحب الفخر، والرياء، والسمعة.

ثم اعلموا أيها المسلمون، أن من أعظم أسباب تخلّف الإخلاص وغيابه في الأعمال هو طلب الدنيا، ومحبة المدح والثناء، قال ابن القيم – رحمه الله -: “لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء، والطمع فيما عند الناس؛ إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت”7، وقال – رحمه الله -: “فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع، والزهد في الثناء والمدح؛ سهل عليك الإخلاص”8.

بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين، وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله العزيزِ الغفورِ، العليمِ بذات الصدور، أحمده ربي سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له الحليم الشّكور، وأشهد أنّ نبيَّنا وسيّدَنا محمّدًا عبده ورسوله، أرسَلَه الله رحمةً للعالمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله، وصحبِه أجمعين، أما بعد:

عباد الله: ما هو السبيل إلى الإخلاص؟ وكيفية الوصول إليه؟ وما الأسباب المعينة على الإخلاص؟ كل هذه الأسئلة وغيرها أظن أنها تدور في فكرك أيها المسلم الكريم، فأقول لك إنها ثمة أسباب، وثمة أمور توصلك إلى الإخلاص، وتجعلك مخلصاً لله ​​​​​​​ منها: أن تطلب ذلك من الله، وأن تدعوه وتتضرع بين يديه لكي يعينك على نفسك، فإنه ما من شيء أشد على النفس من الإخلاص، فقد كان السلف الصالح يعانون من هذا، فهذا سفيان الثوري يقول: “ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي؛ لأنها تتقلب علي”9، وقال سهل بن عبد الله التستري: “ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب”10.

وكذلك من الأسباب: المحاسبة، بأن ينظر العبد في باعث العمل قبل إتيانه، ما هو الباعث للعمل أهو إخلاص لله، أم هو رياء وسمعه، ولهذا كان بعض السلف إذا قيل لأحدهم تعال نحضر جنازة فلان، والصلاة عليه، فيقول له: اصبر حتى أحضر للأمر نية، حتى يوجه بوصلة القلب إلى الله، وابتغاء مرضاته، فعندما يحاسب المسلم نفسه، ويرجع إلى نيته هل هي مخلصة، فيذهب لأداء هذا العمل، أم أنها ليست مخلصة لله فيجلس خيراً من أن يذهب.

وإن من الأسباب المعينة أن يعلم الإنسان أن العبد إذا عمل العمل بدون إخلاص فهو لا ينفعه، وهل من عمل يعمله المسلم إلا ويرجو رحمة الله، ولهذا قال ابن القيم: “العمل بغير إخلاص ولا اقتداءٍ كالمسافر يملأُ جرابه رملاً، ينقله ولا ينفعه”11.

ومن الأسباب كذلك أن يعلم الفوائد التي سيجنيها من هذا الإخلاص فهو إذا علم أن الإخلاص هو الأساس في قبول الأعمال والأقوال، وأنه الأساس في قبول الدعاء، وأنه به ترتفع منزلة الإنسان في الدنيا والآخرة، وبه يذهب عن نفسه وساوس الأوهام، وأنه يحرر العبد من عبودية غير الله، وبه تقوى العلاقات الاجتماعية، وينصر الله الأمة، ويفرج شدائد الإنسان في الدنيا، وبه يحقق الطمأنينة لقلب الإنسان، ويجعله يشعر بالسعادة، ويقوي الإيمان، ويكره إليه الفسوق والعصيان، وهو يقوي عزيمة الإنسان، وإرادته في مواجهة الشدائد، وبه يحصل كمال الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة، فإذا علم الإنسان كل هذه الفوائد، فإنه يسعى جاهداً في أن يخلص العمل لله.

وبعد هذا كله عباد الله: ما أحوجنا إلى أن نكون مخلصين لله في أقوالنا، وأفعالنا، وحركاتنا، وسكناتنا، فإنه السبب في الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة، وما أشدنا حاجة في هذا الزمان بالذات إلى الإخلاص؛ لكي يقوى إيماننا، وتنتصر أمتنا، ويفرج الله عن المسلمين الشدائد والكربات، ويتحررون من العبودية، وتتحقق لهم الطمأنينة والسكينة، ويشعرون بالسعادة؛ لأنهم في حالة لا يعلم بها إلا الله ​​​​​​​ فما أحوجنا إلى الإخلاص؟!.

عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله …

اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك صواباً على سنة رسولك يا رب العالمين.

اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، واجعل كل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم آمين.

اللهم! إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى.

اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وسائر الطغاة المفسدين يا قوي يا متين.


1 تفسير ابن كثير (2/439).

2 تفسير البغوي (4/369).

3 رواه مسلم (4651).

4 رواه البخاري (1) ومسلم (1907).

5 رواه مسلم برقم (1905).

6 رواه البخاري (2334)، ومسلم (2244).

7 الفوائد لابن القيم (ص 149).

8 الفوائد لابن القيم (ص 149).

9 حلية الأولياء (7/62)”وفيه نفسي بدل نيتي”.

10 جامع العلوم والحكم (1/84).

11 الفوائد (ص 67).