حب الدنيا وكراهية الموت

حب الدنيا وكراهية الموت

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد:

فإن الدنيا دار فناء وزوال ما أحقرها وما سميت الدنيا إلا لدناءتها وحقارتها, وما ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه إلا ذاماً لها قال الله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[الأنعام: 32], وقال بأنها متاع الغرور: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران: 185], وقال تعالى في الذين تخلفوا عن الجهاد في سبيل العزيز الغفار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}[التوبة: 38], وقال: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 64] فالحياة الحقيقية الأبدية هي الدار الآخرة, قال الله: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}[غافر: 39], وقال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: 16-17], وقال تبارك وتعالى ذاماً من اغتر بها: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}[البقرة: 212], وقال سبحانه: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}[الأنعام: 70], وقال: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[الأعراف: 51], وشبه الله تعالى الحياة الدنيا بأنها مثل الماء إذا نزل على أرض فقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[يونس: 24], وقال: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}[الكهف: 45], وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد: 20].

وقال سبحانه محذراً عباده من الاغترار بها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[فاطر: 5], وقال: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}[إبراهيم: 3], وقال سبحانه: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}[محمد: 36], وغير ذلك من الآيات.

فهذه هي الحياة الدنيا، لعب ولهو، تلعب بها الأبدان وتلهو بها القلوب، وزينة نتزين بها، وتفاخر بيننا بمتاعها، وتكاثر بالعدد في الأموال والأولاد، مثلها كمثل مطر أعجب الزُّرَّاع نباته، ثم يهيج هذا النبات فييبس، فتراه مصفرًا بعد خضرته، ثم يكون فُتاتًا يابسًا متهشمًا، فهي سرعان ما تنقطع وتزول، وما هي إلا متاع الغرور، وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا فقال: ((مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها))1, وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا من شربة ماء))2، وما هي الدنيا بالنسبة للآخرة؟ إنها لا تساوي شيئاً كما سبق ذلك واضحاً في الآيات المتقدمة وقوله سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[القصص: 60], إن الحرص على الدنيا واتباع الهوى من موجبات العذاب، والخوف من الله وعدم اتباع الهوى من موجبات الرحمة والفوز بالجنة، قال سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 37-41]، وقد يفتح الله أبواب رزقه للناس امتحاناً لإيمانهم أو استدراجاً لهم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}[الأنعام: 44]))3, فمن أراد الفوز بالآخرة فعليه بتقوى الله وتقديم الآخرة على الدنيا والسعي للآخرة قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}[الإسراء: 19], وقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران: 185]، وقد أعد الله لعباده جنات تجري من تحتها الأنهار، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذا خير من الدنيا وما فيها من شهوات من نساء وبنين وأموال وزرع وغير ذلك من متاع زائل، قال سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران: 14-15], وقال الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التكاثر: 1]، نعم لقد ألهى الناسَ التكاثرُ والتفاخرُ بالمال والولد عن طاعة الله وعبادته، وأشغلهم عن تعلم الإسلام والعمل به والدعوة إليه ونصرته، ومنعهم حرصهم على الدنيا وشهواتها ونعيمها الزائل من الحرص على الآخرة الباقية ذات النعيم المقيم، فحبهما لا يجتمعان في قلب مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى))4، هذا هو الميزان الصحيح للربح أو الخسارة، لقد أصاب الوهن القلوبَ، والوهن هو حب الدنيا وكراهية الموت، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مرض خطير تقاعس الناس بسببه عن عبادة الله، فترى المقصرين فيما افترضه الله تعالى عليهم، فهنالك من يترك صلاة الجمعة أو يمنع الزكاة أو يقطع رحمه أو يقعد عن العمل لإقامة حكم الله في الأرض ونصرة دينه أو نصرة إخوانه المسلمين الذين يبيتون على الإنفجارات, ويستيقظون عليها, قد أثخنت فيهم الجراح, وارتفع عدد الشهداء, وطال عليهم الحصار حتى أضر بهم الجوع, فتراه يمتنع عن نصرة إخوانه خوفاً على حياته وحرصاً على دنياه، بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن سكت ولم يتكلم حتى بمجرد الكلام, وآخر وقف ضد إخوانه وإلى الله المشتكى, وترى المرتكبين لما حرم الله فتجد من يتعامل بالربا والرشوة، وتجد من يغش ويحتكر ويسرق ويزني ويأكل حق أمه وأخواته في الميراث تكالباً على الدنيا الفانية.

بسبب هذا المرض ذلت الأمة الإسلامية، واستهان بها عدوها وتداعى عليها من كل حدب وصوب وما نراه ونشاهده ويجري في ديار المسلمين اليوم من قتل ودمار وإزهاق للأرواح, ففرق جمع سكانها، وشتت شملهم، ونهبت خيراتهم، واستحلت أموالهم ودماؤهم وأعراضهم، واستهزئ بنبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وهي لا تحرك ساكناً، أبعدَ هذا الذل من ذل يا أمة الإسلام!!، فقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال كما في حديث  ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء – ما يحمله السيل- كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) فقال قائل: يارسول الله وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت))5، لقد كره الناس الموت لحبهم للدنيا، والله تعالى يقول: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: 16-17]، لقد كره الناس الموت لأنهم عمروا دار الخراب، فكرهوا أن ينتقلوا من العمار إلى الخراب، فقد قصروا اتجاه ربهم تبارك وتعالى ولم يعملوا ما يرضه، فمن كان هذا حاله سيندم في وقت لا ينفع فيه الندم، فقد أخبرنا الله تبارك وتعالى عن حال الكافرين والمفرطين بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون: 99-100]، فإن مات العبد فلا رجعة للدنيا، ويوم العرض لا ينفعه إلا عمله، فإن كان خيراً فخيراً وإن كان شراً فلا يلومن إلا نفسه، فلا ينفعه والده ولا ولده ولا الناس أجمعين قال الله: ‏{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان: 33]، ولا ينفعه أقرباؤه أو أقرانه قال تعالى: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس: 33-37], ولا ماله قال الله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ}[الحاقة: 28]، ولا ينفعه من اتبعهم من سادة وحكام، بل سيتبرؤون منه يوم القيامة قال الله سبحانه وتعالى: {وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}[إبراهيم: 21], صحيح أن الله تبارك وتعالى قد فطر في الإنسان غريزة النوع وغريزة حب البقاء، ولكن نهاه وحذره من أن يجعل الدنيا وشهواتها في رأس سلم أعماله وقيمه، وأوجب عليه أن يجعل حب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وما يقتضيه هذا الحب من طاعة والتزام بدينه وإيثار للآخرة على الدنيا فوق كل شيء قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ َإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة: 24].

فبعد هذا البيان الواضح الجلي، لماذا نحرص على الحياة الدنيا؟ ألم يكف ما نحن فيه من ذل وهوان؟ ما هذا الذل والجبن؟ ألم يحركنا الشوق للجنة لأن نبيع الدنيا ونشتري الآخرة ونجعل أرواحنا رخيصة في سبيل الله تبارك وتعالى، ألم نستشعر معاني العزة والكرامة فنسارع إليها فنعتز بالله تبارك وتعالى فيكرمنا الله بالعزة والنصر على الأعداء والتمكين في الأرض قال الله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}[فاطر: 10]، فلنعد إلى ديننا ونعتصم بحبل ربنا تبارك وتعالى ونعمل مع العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية حتى يرفع الله تبارك وتعالى الذلَ والمهانة عنا، ويكرمنا بخلافة على منهاج النبوة إنه على كل شيء قدير قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: 7], وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: 47]، فالإيمان شرط أساسي لتمكين في الأرض والنصر على الأعداء, وسبب في تولي الدفاع من الله تعالى عن المؤمنين قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[الحج: 38], وقال تعالى في صفات الذين استحقوا التمكين في الأرض: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[الحج: 41], وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور: 55], ألا فلتعد الأمة إلى رشدها وتراجع إيمانها حتى تفلح في الدنيا وتنتصر على الأعداء, وتفلح في الآخرة بإكرام الله لها بالدخول إلى الجنة؛ نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيد الأمة إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يهيأ لها أسباب النصر بمنه وكرمه, ونسأله تعالى أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا, ونسأله تعالى أن يعز الإسلام والمسلمين ويذل الشرك والمشركين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 رواه أحمد (2744)، قال محققو المسند: "إسناده صحيح".

2 رواه الترمذي (2320) وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه، وابن ماجة برقم (4110)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (3318)، وفي السلسلة الصحيحة (686).

3 رواه أحمد (17311)، وقال محققو المسند: "حديث حسن".

4 رواه أحمد (19712)، وقال الألباني: "صحيح لغيره" انظر: صحيح الترغيب والترهيب (3247).

5 رواه أبو داود (4297)؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (958).