عزاء لأهل البلاء

عزاء لأهل البلاء

 

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، مدبر الأمور ومقدر الأقدار، سبحانه {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}[الرعد: 8]، الحمد لله القائل:{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن: 29]" أي: أنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض، سؤال المحتاج إلى رزقه وفضله وستره وعافيته، وهو عز وجل في كل وقت من الأوقات، وفى كل لحظة من اللحظات في شأن عظيم وأمر جليل، حيث يُحدِث ما يحدث من أحوال في هذا الكون، فيُحيى ويُميت، ويُعز ويُذل، ويُغنى ويُفقر، ويُشفي ويُمرض.. دون أن يشغله شأن عن شأن…عن أبى الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: ((مِن شأنه: أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما ويخفض آخرين))1"2.

وسأل بعضُهم أحد الحكماء عن كيفية الجمع بين هذه الآية، وبين ما صح من أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ؟ فقال: "شئون يبديها لا شئون يبتديها "…

سبحانَه مِن خالقِ قديرِ *** وعالمٍ بِخلْقه بَصير

وأوّلٌ ليس له ابتداءُ *** وآخِرٌ ليس له انتهاءُ

ومَن عَنت لوجهه الوُجوهُ *** فماله نِد ولا شَبيهُ

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام: هكذا خلق الله هذه الدنيا، وهذه أرادة الله في الحياة: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2]، فهذه هي إرادة الله في خلقه، وحكمته في إنشائه، وإرادته في صنعه، أن خلق هذه الدنيا لاختبار هذا الإنسان، وجعل سبحانه سنته في هذا الإنسان أن يخلق في كبد: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد: 4]، قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "قال الحسن رحمه الله: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعنه أيضا: يكابد الشكر على السراء، ويكابد الصبر على الضراء، لأنه لا يخلو من أحدهما.

قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطا، وشد رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد، والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدَّين، ووجع السن، وألم الأذن.

ويكابد محنا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، أو يكابد مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة الملك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار"3 قال أحد الشعراء عن كثرة تكالب المصائب عليه:

رماني الدهر بالأرزاء حتى *** فؤادي في غشاء من نبال

فصرت إذا أصابتني سهامٌ *** تكسرت النصال على النصال

يقول: إن سهام الدهر من المصائب والبلايا،لم تدع في قلبي موضعاً إلا وفيه سهم، حتى كأنه إذا رماني بسهامه وقع سهم على سهم آخر، ولم يجد في فؤادي مكاناً خالياً، فتكسرت السهام على السهام، ثم يقول:

وهان فما أبالي بالرّزايا … لأنّي ما انتفعت بأن أبالي

يقول: من كثرة المصائب هان علي ما ألقاه منها، فلا أشغل بالي في التفكر فيها، والقلق منها؛ لأني لا أستفيد شيئاً من ذلك غير الهم والحزن.

فالابتلاء سُنّة من سنن الله جارية منذ فجر التاريخ، وقد يكون صعبًا على النفوس، ثقيلا على القلوب، مؤلماً للأرواح لكن يرفع الله به درجة الأنبياء، ويمحو به خطايا الصالحين.

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إنما جعلت العلل ليؤدب بها العباد، ليس كل من مرض مات"، نعم ليس كل من مرض مات، فكم من أناس نزل بهم البلاء، ومستهم البأساء والضراء، وبلغت منهم القلوبُ الحناجر، ويأس الجميع من الحياة، وقنط الكل من السلامة، فنزل الفرج في غمضة عين، ولمحة بصر.. لأن الغرض أصلاً هو التمحيص والاختبار {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2].

"سأل رجل الشافعي رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل أن يُمَكَّن أو يُبتلى؟ فقال الشافعي رحمه الله: لا يُمَكَّن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلي نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يَخلُص من الألم البتة، وهذا أصل عظيم فينبغي للعاقل أن يعرفه".

وأعلموا عباد الله أن الابتلاء ليس فقط بالشر، بل قد يكون بالخير والأموال والصحة والقوة والجمال، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: 35].

وقال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر: 15] أي: "{فيقول} على سبيل التباهي والتفاخر..{ربي أَكْرَمَنِ} أي: ربى أعطاني ذلك، لأني مستحق لهذه النعم…

– ثم قال: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر: 16] – أي: وأما إذا ما امتحنا هذا الإِنسان بسلب بعض النعم عنه، وبضيق الرزق..{فيقول} على سبيل التضجر والتأفف وعدم الرضا بقضائه سبحانه: {ربي أَهَانَنِ} أي: ربي أذلني بالفقر، وأنزل بي الهوان والشرور"4، فقال سبحانه ردا على هذا الظن:{كلا} أي ليس الأمر كذلك، وإنما الله تعالى يبتلي عباده بالغنى والفقر، فينظر من هو المجاهد الشاكر الصابر على ما ابتلاه به، كما يبتلي عباده بالمصائب والأسقام تطهيرا لهم من الذنوب والآثام.

وقال بعض السلف: "البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر ولا يصبر على العافية إلا صديق" وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر".

وقال ابن القيم رحمه الله: "فلا خلاص لأحد مما يؤذيه البتة، ولهذا ذكر الله تعالى في غير موضع أنه لا بد أن يبتلي الناس، والابتلاء يكون بالسراء والضراء، ولا بد أن يبتلى الإنسان بما يسره وبما يسوؤه، فهو محتاج إلى أن يكون صابراً شكوراً، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف: 7]، وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الأعراف: 168]، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه: 123-124]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: 142]، هذا في آل عمران، وقد قال قبل ذلك في البقرة – التي- نزل أكثرها قبل آل عمران: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}[البقرة: 214]، وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء، كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتن في كير الامتحان؛ إذ كانت النفس جاهلة ظالمة وهي منشأ كل شر يحصل للعبد، فلا يحصل له شر إلا منها قال تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}[النساء: 79]، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}[آل عمران: 165]، وقال: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}[الشورى: 30]، وقال تعالى:  {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال: 53]، وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت وفي كل ذلك يقول إنهم ظلموا أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون، وأول من اعترف بذلك أبواهم: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 23]"5.

واعلم أيها الأخ المسلم والأخت المسلمة:  أن الابتلاء لأهل الإسلام والإيمان، ليس كالابتلاء لغيرهم! فأهل الإسلام الذين يصبرون على الضراء، ويشكرون على السراء، يكون بلاؤهم دليلاً على قوة إيمانهم، وتكفيراً لسيئاتهم، ورفعاً لدرجاتهم، وليس ذلك إلا لهم {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الجمعة: 4].

أخي المسلم أختي المسلمة: إن البلاء لا يخلو منه بيت، والمصائب لا تترك داراً إلا زارته، والنكبات لا تنام ولا تُنيم، فهذا صُدم أبوه وهذا قُتل أخوه وهذا غرقت أمه وهذا احترق بيتُه، وهذا سُجن ابنه، وهذه فقدت زوجَها، وهذه أصابها سحر أو عين كدّرت عيشتها وأحزنت أهلها وأفقرت أسرتها، وهذا كان من أغنى الناس فصار في لمحة بصر فقيراً مدقعا يتكفف الناس، وهذا مهموم وهذا مغموم وهذا فُصل من عمله، وهذا يأن على فراشه من شدة المرض وهذا وهذه وهكذا أخي المسلم، وفي كل بيت أنة وزفير.

لكن الذي يجب أن نتعلمه جميعا، وأن يكون حاضرا في أذهاننا، أولاً أن لا ندعو على أنفسنا بالبلاء والشر ولا نتمناه، بل ندعوه سبحانه أن يعافينا منه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي))6.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء))7.

هذا قبل المصيبة، لكن إن قدر الله ووقعت المصيبة فهنا يأتي الدور الثاني الذي يجب أيضا أن نتعلمه ونُعوّد أنفسنا عليه وهو: الرضا والتسليم، والصبر الجميل، وأن نلتجئ إلى الله الواحد الأحد أن يكشفه عنا، ويوفقنا للصبر عليه.

قال الحق سبحانه مبشرا للصابرين: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِيْنَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155-157] أي تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} والصلاة من الله قال المفسرون: معناها الثناء والمغفرة، الله سبحانه الكبير العزيز الملك، الذي خلق السماوات والأرض يثني عليك عند ملائكته، وتأمل قوله تعالى: {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ}، ولم يقل صلاة فقط؛ ليدل على كثرة ثنائه سبحانه على الصابرين، وعظيم مغفرته لهم، لكن: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت: 35].

"عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وخلف له خيرا منها)) قالت: فلما توفي أبو سلمة، قلت: من خير من أبي سلمة! صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت: ثم عزم الله عز وجل لي فقلتها: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم"8.

قال ابن القيم رحمه الله: "والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخففه إذا نزل وهو سلاح المؤمن"9.                                                  

وقال رحمه الله: "فإن الله يدفع بها أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض مقرون به لأنهم جربوه"10.

أيها المسلمون: يقول الله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5]، لكن بعض المسلمين يقرءون الفاتحة في اليوم الواحد عدة مرات ويكررون في كل ركعة قول الله: {إيَّاكّ نّعًبٍدٍ} أي: لك نذل وإياك نطيع ونتبع ونستسلم.. ولكن واقعهم يقول غير ذلك: إنهم يذلون للبشر، إنهم يتخذون غير الله آلهة يخضعون لها ويخافون منها وينقادون لها، ويقولون {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بألسنتهم: ولكن الواقع يقول غير ذلك؛ لأنهم إذا أصابهم البلاء اتجهوا للمخلوق قبل الخالق، واعتقدوا أن للمخلوق قدرة النفع أو الضر، فيدعون الأولياء والصالحين من دون الله رب العالمين، أو يدعونهم مع الله تعالى، يا جيلاني! يا ابن علوان! ياخمسة! مع أنهم يقولون: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيهملون تماماً الالتجاء إلى الله؛ ليدعوا المخلوقين، وقد قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}[الجن: 18]، ومن الناس كذلك من يبكون بين أيدي المخلوقين في المساجد وغيرها، ويشكون الخالق إلى المخلوق، ووالله الذي لا يُحلف إلا به لو أنهم وقفوا في الثلث الأخير من الليل بين يدي الملك العزيز، بذل وخضوع ورجاء، وبكوا بين يديه مثلما يبكون بين يدي المخلوقين، لجعل الله لهم فرجا ومخرجا من حيث لا يحتسبون، لأن الله لا يخلف الميعاد: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60]، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}[الطلاق: 2]، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[آل عمران: 9].

وهنا أقول لك أيها المسلم، وأيتها المسلمة: إذا رأيتم صاحب بلاء أو مصيبة أن تدعوا الله أيضا بما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه لنا عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، إلا عوفي من ذلك البلاء كائنا ما كان ما عاش))11.

وعلى أهل البلاء أيضا أن يعلموا أن هذا البلاء وإن كان شديد الوقع على النفوس، إلا أنه رحمة من الله وفيه من الخير لنا مالا يعلمه إلا الله، وأن هذا البلاء كدواء الأطباء، طعمه مر لا يطاق إلا بمشقة، لكن عاقبته الشفاء العاجل، والسعادة الآجلة بإذن الله تعالى.

والصبر مثل اسمه مر مذاقته *** لكن عواقبه أحلا من العسل

وعن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له))12.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه؛ حتى الشوكة يشاكها))13 وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجعك، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد))14.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة))15 أي عينيه.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة))16،

وليعلم أهل البلاء، وأصحاب المصائب والنكبات والفقر، أن ذلك البلاء من الله – إن كانوا من أهل الطاعة والعبادة- فالبلاء ذلك دليل صريح على أن الله سبحانه يحبهم، ويقربهم ويريد أن يرفع درجتهم عنده سبحانه.

واسمعوا يا أهل البلاء إلى هذا الحديث العظيم: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط))17.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يُوَافِي به يوم القيامة))18.

وليعلم أهل البلاء أن الله ينزل البلاء والمصائب على العبد بقدر إيمانه وتقواه وطاعته.

عن عبد الرحمن بن شيبة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وجَعٌ، فجعل يشتكى ويتقلب على فراشه، فقالت عائشة: لو صنع هذا بعضُنا لوجدتُ عليه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الصالحين يُشدد عليهم، وإنه لا يصيب مؤمناً نكبة من شوكة فما فوق ذلك، إلا حطت به عنه خطيئة ورفع بها درجة))19 وهو رسول الله أعظم مخلوق خلقه الله، ويشدد عليه هكذا، هل لأن الله يبغضه؟ حاشا لله، بل لأنه يحبه ويريد أن يرفع درجته،

وعن مصعب بن سعد بن مالك: عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة))20، فهذا يدل على أن الابتلاء دليل على قوة الإيمان ورسوخه في قلب صاحبه، هذا إن كان من أهل الإيمان والصلاح، أما إن كان مفرطاً في طاعة ربه، فقد يكون البلاء مكفراً لسيئاته، أو واعظا له حتى يرجع إلى ربه، أو تعجيلاً لعقوبته في الدنيا.

أما في الآخرة فأبشروا يا أهل البلاء بالأجر العظيم الجليل، الذي لا يعلم حده وقدره إلا الله تعالى، وما أظن مسلماً يسمع هذا الفضل إلا رضي وصبر، بل وفرح بذلك البلاء إن لم يكن في دينه.

قال الحق سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10]، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض))21.

بل لقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام قوله: ((يؤتى بالشهيد يوم القيامة فيوقف للحساب، ثم يؤتى بالمتصدق فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينصب لهم ديوان، فيصب عليهم الأجر صبا، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله))22.

فطوبى لأهل البلاء الصابرين المحتسبين، طوبى لهم وهنيئاً لهم هذه الأجور العظيمة والدرجات العالية الرفيعة.

قال عمر: وجدنا خير عيشنا بالصبر.

"وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا أنه لا إيمان لمن لا صبر له"23.

وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن آبائه، حين مات ابنه فلم يُر منه جزع، فسئل عن ذلك، فقال: أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره.

"قال عبد المؤمن بن عبد الله القيسي: ضربت أمَ إبراهيم العابدة دابةٌ، فكسرت رجلها فأتاها قوم يعزونها، فقالت: لولا مصائب الدنيا وردنا الآخرة مفاليس"24.

"وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده. وقال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرا مما انتزعه… وقال سليمان بن القاسم: كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10] قال: كالماء المنهمر. وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل وقت ينظر فيها وفيها واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا"25.

"ومرض أبو بكر الصديق فعادوه فقالوا: ألا ندعوا لك الطبيب، فقال: "قد رآني الطبيب، قالوا: فأي شيء قال لك؟ فقال: قال: "إني فعال ما أريد"26.

وروُى أن سعيد بن جبير رحمه الله قال: "الصبر: اعتراف العبد لله بما أصابه منه واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه، وقد يجزع العبد وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر"27.

"قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟! قلت: بلى! قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي قال: ((إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك)) فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها"28.

ولقد كان الصبر جلباباً يرتدونه عند نزول البلايا، وشعاراً عند حلول المصائب، قال بعض السلف: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله! إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد الله إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمد الله إذ وفقني للاسترجاع، وأحمد الله إذ لم يجعلها في ديني!

فالصبر الصبر يا من يعاني الآلام، ويعيش الغصص، ويتجرع الأمراض؛ فإن الفرج قريب، فسوف يُشفى المريض، ويعود الغائب، ويُفك الأسير، وينتصر المظلوم، وتنقشع الهموم، وتُزال الغموم، وتُقضى الديون، أو يجعل الله ذلك عليك برداً وسلاماً، ويثيبك عليه الأجور التي لا تُحصى في يوم الدين، فالحق سبحانه كل يوم هو في شأن، فاعلم أيها المُصاب أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرين، فلا تظن بربك إلا خيراً، فالخير كله بيده سبحانه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: ((أنا عند ظن عبدي بي إن ظن بي خيرا فله، وإن ظن شرا فله))29.

اللهم فرج الهم، واكشف الغم، واغفر الذنب واستر العيب، وارزقنا الصبر في الضراء، والشكر في السراء، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء…

والحمد لله رب العالمين


1 رواه ابن ماجة (202)، وحسنه الألباني.

2 الوسيط لسيد طنطاوي (1/ 4047).

3 تفسير القرطبي (20/63).

4 الوسيط لسيد طنطاوي (1/4502).

5 الفوائد (1/210).

6 رواه البخاري برقم (5671)، ومسلم برقم (6990).

7 رواه البخاري برقم (6347).

8 رواه مسلم برقم (2167).

9 تهذيب الداء والدواء الشيخ محمد الهبدان (1/4).

10 الوابل الصيب (1/49).

11 رواه الترمذي برقم (3431)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3392).

12 رواه مسلم برقم (7692).

13 رواه البخاري برقم (5640)، ومسلم برقم (6730).

14 الترمذي برقم (1021)، وحسنه الألباني.

15 رواه أحمد برقم (7597)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2401).

16رواه الترمذي برقم (2399) وقال الألباني: حسن صحيح.

17رواه الترمذي برقم (2396)، وحسنه الألباني.

18 رواه الحاكم في المستدرك برقم (8799)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (308).

19 رواه أحمد برقم (25303)، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح.

20رواه أحمد برقم (1555)، وحسنه الأرناؤوط في تعليقه على أحمد.

21 رواه الترمذي برقم (2402)، وحسنه الألباني.

22 رواه الطبراني في الكبير (12861)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/91)، وحسنه الألباني في الصحيحة برقم (2206).

23 تسلية أهل المصائب لأبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحنبلي (1/141).

24 عدة الصابرين (1/73).

25 عدة الصابرين (1/77).

26 عدة الصابرين (1/76).

27 عدة الصابرين (1/79).

28 رواه البخاري برقم (5328)، ومسلم برقم (2576).

29 رواه أحمد برقم (9065)، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (1663).