الكذب يهدي إلى الفجور

الكذب يهدي إلى الفجور

الخطبة الأولى:

الحمد لله مستحق الحمد وأهله، يجزي الصادقين بصدقهم من رحمته وفضله، ويجازي الكاذبين فيعاقبهم إن شاء بحكمته وعدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في حكمه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل خلقه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله – تعالى – وكونوا مع الصادقين في عبادة الله، ومع الصادقين في عبادِ الله.

اصدقوا الله – تعالى – في عبادته، اعبدوه مخلصين له غير مرائين في عبادته، ولا مسمِّعين، امتثلوا أمره طلبًا للقرب منه، والحصول على ثوابه، اجتنبوا نهيه خوفًا من البعد عنه، والوقوع في عقابه، لا تبتغوا في عبادته أن يَراكم الناس أو يسمعوكم فيمدحوكم عليها؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معه غيره تركه وشركه.

اصدقوا النبي  في اتباعه ظاهراً وباطناً غير مقصرين في سنته، ولا زائدين عليها، اصدقوا الناس في معاملتهم، أخبروهم بالواقع فيما تخبرونهم به, وبينوا لهم الحقيقة فيما تعاملونهم به، ذلك هو الصدق الذي أمركم الله به ورسوله يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]، ويقول النبي : عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا1.

لقد بيَّن رسول الله  في هذا الحديث أن للصدق غايةً، وللصادق مرتبةً، أما غاية الصدق فهي البر والخير ثم الجنة، وأما مرتبة الصادق فهي الصديقية، وهي المرتبة التي تلي مرتبة النبوة: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، وإن الصادق له مكانة بين الناس في حياته ومماته، فهو موضع ثقة فيهم في أخباره ومعاملته، وموضع ثناء حسن، وترحم عليه بعد وفاته.

واحذروا – أيها المسلمون – من الكذب .. احذروا من الكذب في عبادة الله، لا تعبدوا الله رياءً وسمعةً، وخداعًا ونفاقًا، واحذروا من الكذب في اتباع رسول الله ، لا تبتدعوا في شريعته، ولا تخالفوه في هديه، واحذروا من الكذب مع الناس لا تخبروهم بخلاف الواقع، ولا تعاملوهم بخلاف الحقيقة.

إن المؤمن لا ينبغي له أن يكذب؛ لأن الكذب من خصال المنافقين كما بيَّن بقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، وقوله جل ثناؤه: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، وقوله سبحانه: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]، والمؤمن لا يكذب لأنه يؤمن بآيات الله، ويؤمن برسوله، وبقوله : إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا2 ما أقبح غاية الكذب، وما أسفل مرتبته، يهدي إلى الفجور وهو الميل والانحراف عن الصراط السوي ثم إلى النار، ويا ويل أهل النار، فالكاذب سافل؛ لأنه مكتوب عند الله كذابًا، وبئس هذا الوصف لمن اتصف به.

إن الإنسان لينفر أن يقال له بين الناس: يا كذاب، فكيف يقبل أن يكتب عند خالقه كذابًا.

وإن الكاذب لمحذور في حياته، لا يوثق به في خبر ولا معاملة، وإنه لموضع الوصف القبيح بعد وفاته، ولقد قرن الله – تعالى – الكذب بعبادة الأوثان فقال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحـج:30]، ويدخل في الزور: الكذب، فهل بعد ذلك سبيل إلى أن يتخذ المسلم الكذب مطيةً لسلوكه، أو منهجًا لحياته.

لقد كان الكفار – يا عباد الله – مع كفرهم، وأهل الجاهلية في جاهليتهم؛ يترفعون عن الكذب، ولا يتخذونه منهجًا لحياتهم، أو بلوغ مآربهم, فهذا أبو سفيان ذهب قبل أن يسلم في ركب من تجار قريش إلى الشام، فلما سمع بهم هرقل ملك الروم بعث إليهم ليسألهم عن النبي  قال أبو سفيان: “فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبًا لكذبت عليه”3.

أيها المؤمنون: إن الكفار في كفرهم، وأهل الجاهلية في جاهليتهم؛ يترفعون عن الكذب، ويستحيون من أن يؤثر عليهم، وينسب إليهم، فكيف بكم أنتم أيها المؤمنون وقد حباكم الله تعالى بهذا الدين الكامل الذي يأمركم بالصدق، ويرغبكم فيه، ويبين لكم نتائجه، وثمراته الطيبة، وينهاكم عن الكذب، ويحذركم منه، ويبين لكم نتائجه، وثمراته الخبيثة4.

سئل شريك بن عبد الله فقيل له: يا أبا عبد الله رجل سمعته يكذب متعمداً أأصلي خلفه؟ قال: لا5. وعن ابن مسعود  قال: “إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم شيئاً ثم لا ينجزه، اقرءوا إن شئتم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]6.

أيها المسلمون: إن الناظر في حال الأمة اليوم ليجد الكذب بشتى صوره، وما ترتب عليه من آثار منتشرة في الأمة بشكل ملفت، زاد الأمة انحطاطاً في أخلاقها، وفساداً في قيمها، ومن ذلك ما ينشر عن الإسلام وأهل الإسلام من أفكار وأوصاف لا تمت إلى الإسلام والمسلمين بصلة، وإنما هو ادعاء، وافتراء، وكذب من قبل الكاذبين، ومما يؤسف له أن ذلك يصدر من بعض من ينتسبون للإسلام سواء من المنافقين أو المقلدين التقليد الأعمى، وليس فقط من قبل الكفار.

عباد الله: هناك دوافع تدفع البعض إلى الكذب بأنواعه، وفي جميع مجالاته، إضافة إلى ضعف الوازع الديني، وعدم الشعور بالمسئولية تجاه ما أراده الشرع الشريف منه، ومن تلك الدوافع:

الاعتزاز بخداع النفس، ومحاولة اجتلاب النفع مع أن فيه الهلكة قال عمر بن الخطاب : “لأن يضعني الصدق – وقلما يضع – أحب إليَّ من أن يرفعني الكذب وقلما يفعل7“.

ومنها: أن يقصد بالكذب التشفى من عدوه، فيسِمه بقبائح يختلقها عليه، وكذلك من الدوافع إلى الكذب – التي ينبغي الحذر منها – أن يتعود العبد الكذب حتى يصير الكذب سجية له.

إن الكذب – يا عبد الله – له آثار سلبية وأضرار خطيرة كما بيَّن ذلك الحبيب محمد  فينبغي علينا – معشر المسلمين – الحذر والتوقي منها، وتلك المخاطر تشمل الفرد والأمة، ومن هذه الآثار الخبيثة والثمار الفاسدة:

تضييع حقوق العباد: حيث أن من صور الكذب شهادة الزور، وكم هي الصور والقصص الواقعية التي ابتليت بها الأمة في هذا الباب، كم من شكاوى في الشوارع والمجالس والمحاكم مما يقع من الظلم والعدوان على حقوق الناس بسبب الكذب، وشهادات الزور – ولا حول ولا قوة إلا بالله -.

ومن نتائج وآثار داء الكذب: تزعزُع العلاقة، وعدم الثقة، وفقدان الطمأنينة، وإحجام الناس عن المرء المتصف بهذه الصفة الذميمة، حيث لا يُعلم صدقه من كذبه، فلا يتعامل الناس معه، فيا لها من تعاسة له يوم يعيش منبوذاً في مجتمعه، يضر نفسه وأمته، والله العالم بالعاقبة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي له الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل مخلوقاته، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه المقتدين به في كل حالاته أما بعد: أيها الناس اتقوا الله بالمحافظة على مراضيه، وحفظ الجوارح كلها عن مساخطه ومناهيه.

واعلموا أن أهم ما يجب حفظه والعناية به: اللسان، فإنه يكب صاحبه إذا لم يحفظه في النيران، وقد يرقيه إلى أعلى مراتب الإيمان8 قال : إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه9.

عباد الله:

إن الكذب عنصر إفساد كبير للمجتمعات الإنسانية، وسبب هدم لأبنيتها الحضارية، وتقطيع لروابطها وصلاتها، ورذيلة من رذائل السلوك ذات الضرر البالغ، ويكفي العبد العاقل اللبيب للحذر من هذا المرض أن يعلم أن الكذب طريق إلى النار، فيه يخسر الإنسان آخرته بعد خسارة دنياه.

لقد كان رسولنا محمد  منذ نعومة أظفاره موصوفاً بالصادق الأمين، بقدر ما اتخذ من الصدق صفة له دليلاً لا يقبل الجدل لإثبات كونه رسول الله – تعالى –10.

بل حتى أبو سفيان في حال كفره تنزه أن يوصف بالكذب ولو مرة واحدة؛ مع أنه كان يرى أن له مصلحة في كذبه عما يخبر به عن رسول الله ، وإن بعض المنخدعين من هذه الأمة ليستمرئ الكذب، ويفتي نفسه بحله؛ إما لتهاونه بالكذب، وإما لاعتقاد فاسد يظن أن الكذب لا يحرم إلا إذا تضمن أكل مال، وإما لطمع مادي يتمتع به في دنياه، وإما لتقليد أعمى لا هداية فيه، وكل ذلك خداع لنفسه، وتضليل لفكره.

فالتهاون بالكذب عنوان الرذيلة، والكذبة الواحدة تخرق السياج الحائل بينك وبين الكذب حتى لا يبقى دونه حائل.

فالكذب كغيره من المعاصي تستوحش منه النفس المطمئنة الراضية المرضية، فإذا وقعت فيه مرةً هان عليها شأنه، ثم تقع منه ثانيًا فيهون عليها أكثر؛ حتى يصبح سجية وطبعاً، فيكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذابًا.

إن الكذب حرام، وإن لم يكن فيه أكل لمال الغير بالباطل؛ فليس في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله  أن تحريمه مشروط بذلك، ولكنه إذا تضمن أكل مال بالباطل كان أعظم جرمًا، وأشد عقوبةً فعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن النبي  عدَّ الكبائر وفيها: اليمين الغموس, قيل: وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب11، وقال : من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك12.13.

إن من الناس – في هذا الزمان – من يكذب ليضحك القوم، فيألف ذلك لما يرى من ضحك الناس، ويستمر على عمله فيهون عليه، وقد جاء في الحديث: ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ثم ويل له14. ومن الصور المتفشية في هذا العصر: أن بعض الناس يكذب على الصبيان؛ لأنهم لا يوجهون إليه النقد، ولكنه في الحقيقة أوقع نفسه في الكذب، وفتح لهم باب التهاون به، والتربي عليه عن عبد الله بن عامر  أن أمه دعته فقالت: تعال أعطك فقال النبي : ما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمراً، فقال لها رسول الله  : أما إنكِ لو لم تعطه شيئاً لكتبت عليك كذبةً15.  16.

عباد الله: إن من أخطر ما تتعرض له الدعوة إلى الله – تعالى – في عصرنا هذا هو الكذب في القصص؛ لأجل كسب الناس إلى الخير، سواء نسبها قائلها إلى النبي  أو إلى غيره، أو اخترع شيئاً من كيسه، ثم يصوغه على شكل حدث وواقعة، ثم يروجها بين الناس، وهي من الأساليب المحرمة التي نص أهل العلم على حرمتها، وضلال أصحابها؛ لأن القصة تخلد في الأذهان أكثر من غيرها من الأساليب، وانتزاعها بعد رسوخها أمر في غاية الصعوبة، وقد جاء من النصوص في حرمة الكذب عامة، وعلى الله والرسول خاصة؛ ما فيه رادع لكل من وقع في هذا المرتع الوخيم، ومن لم تزجره هذه النصوص الشديدة عن هذا الأسلوب فهو مفتون لن تملك له من الله شيئاً قال تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105] وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : من كذب عليَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار17 وغيرها من النصوص التي لا تخفى على مطَّلع18. فعلى الداعية إلى الله – تعالى – أن يتقيَ الله، وأن يكون صادقاً في أقواله وأفعاله، وسائر تصرفاته وأحواله، وهذا من أعظم النعم على العبد، ولهذا قال كعب بن مالك : “فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم من صدقي لرسول الله  “19– يريد ما حدث في قصة تخلفه عن غزوة تبوك -.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري (5743)، ومسلم (2607) واللفظ له.

2 سبق تخريجه.

3 صحيح البخاري (6).

4 انظر كتاب: الضياء اللامع من الخطب الجوامع (3 /170) للشيخ مجمد بن صالح بن عثيمين.

5 تفسير القرطبي (8 /289).

6  المرجع السابق (8 /289)

7 انظر: كتاب أدب الدنيا والدين لـ (الماوردي) (1 /263).

8 الفواكه الشهية في الخطب المنبرية (1 /274) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.

9 رواه الترمذي برقم (2319)، وابن ماجة (3969) وغيرهما, وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع (1619).

10 انظر: كتاب مفاهيم إسلامية – لـ(عاصم أحمد الدسوقي (1 /259).

 11رواه البخاري برقم (6409).

12 رواه النسائي (5324), وأحمد (21288)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (6076).

13 انظر كتاب مفاهيم إسلامية لـ(عاصم أحمد الدسوقي) (1 /259).

14 رواه أبو داود (4338)، وأحمد (19191) وحسنه الألباني، انظر: صحيح الجامع (7136).

15 رواه أبو داود (4339)، وحسنه الألباني، انظر: صحيح الجامع (1319).

16 انظر كتاب: الضياء اللامع من الخطب الجوامع للشيخ مجمد بن صالح العثيمين.

17 رواه البخاري (1209), ومسلم (4).

18 البصيرة في الدعوة إلى الله (1 /142) لعزيز بن فرحان العنزي.

19 فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري (1 /150) لسعيد بن علي بن وهب القحطاني.