تغدو خماصاً وتروح بطاناً

تغدو خماصاً وتروح بطاناً

 

الحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد إن لا إله إلا هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، والمبعوث رحمة للعالمين، وخير خلق الله أجمعين، وسيد المتوكلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فإن التوكل على الله مقام جليل، ومنزلة من منازل العبودية لله رب العالمين، كما في قول رب العزة والجلال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 1]. ولذلك فقد جاءت أحاديث كثيرة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في بيان ماهيته وحقيقته والحث عليه والترغيب فيه، وتعديد فضائله وذكر مجالاته ومقاماته، ومن هذه الأحاديث المشهورة الحديث الذي سنتناوله – إن شاء الله – بشيء من الإيضاح والتبيين، وإليكم أولاً نصه، ثم بيان غريب لفظه، ثم ذكر معناه إجمالاً ثم ذكر بعض الفوائد المستخلصة منه، والله نسأل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، ونعوذ به من علم لا ينفع.

نص الحديث:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً))1.

غريب الحديث:

(لو) حرف شرط يفيد الاستقبال، فليس داخل فيما جاء النهي عنه، وإنما له نظائر في أحاديث أخرى مثل: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة))2. وحديث: ((لو كنت راجماً بغير بينة لرجمتها))3. ونظائر ذلك كثير في الكتاب والسنة.

((توكلون)) والتوكل: صدق اعتماد القلب على اللّه عزّ وجلّ في استجلاب المصالح ودفع المضارّ من أمور الدّنيا والآخرة، وكلة الأمور كلّها إليه، وتحقيق الإيمان بأنّه لا يعطي ولا يمنع ولا يضرّ ولا ينفع سواه4.

وقال الجرجاني: التّوكّل هو الثّقة بما عند اللّه واليأس عمّا في أيدي النّاس5.

((تغدو)) الغدو هو الذهاب في أول النهار.

((خماصاً)) بكسر الخاء المعجمة جمع خميص أي جياعاً، ومنه قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[المائدة: 3]، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ}[التوبة: 120].

((وتروح)) هو الرجوع في آخر النهار، وفي الحديث الصحيح: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها))6.

((بطاناً)) أي شابعة.

المعنى الإجمالي:

هذا الحديث أصل في التوكل على الله، ففيه يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لو توكلوا على الله حق توكله وفوضوا الأمور إليه، لرزقهم من حيث لم يحتسبوا، ويهيأ لهم الرزق بسبب بسيط يبذلونه، وضرب لهم مثلاً بذلك من واقعهم الذي يشاهدونه ويرونه  في واقع حياتهم، بل وفي مخلوق ضعيف، وهو الطير، فهو يبذل السبب، فيغدو خاوي البطن للبحث عن الرزق فيعطيه الله من خزائنه التي لا تنقضي، فيعود إلى وكره أو عشه وبطنه ممتلئة، فلو أن الناس توكلوا على الله واعتمدوا عليه، وبذلوا الأسباب، فسعوا في طلب الرزق لرزقهم كما رزق الطير.

بعض فوائد الحديث:

فيه فوائد كثيرة، ولكن حسبي هنا أن أشير إلى فائدة واحدة هي أم الفوائد، ثم اعلق عليها بما يسر الله، وذلك لأنها فائدة جليلة القدر، عظيمة النفع والفائدة، ألا وهي بيان أهمية التوكل وحقيقته، الذي يعني بذل الأسباب من السعي في طلب الرزق، أو غير ذلك، مع صدق الاعتماد على مسببها، وهو الله سبحانه وتعالى. إن أهمية التوكل تكمن في أن التوكل مقام جليل، وواجب على المسلم التحلي به، والاعتماد على الله في كل شأن من شؤون حياته، بل إن التوكل من أعظم الواجبات الشرعية، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات؛ كما أن الإخلاص لله واجب، وقد أمر الله بالتوكل في غير آية، أعظم مما أمر بالوضوء، وغسل الجنابة، ونهى عن التوكل على غيره7. وهو سبب موصل إلى تحقيق كل الغايات، كما قال تلميذه ابن القيم رحمه الله: ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل من مكانه، وكان مأموراً بإزالته لأزاله8. بل إن التوكل على الله نصف الدين؛ كما قال ابن القيم رحمه الله: التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة9. وهو جامع لمقامات عديدة من الدين، قال ابن القيم رحمه الله: والتوكل جامع لمقام التفويض، والاستعانة، والرضا، فلا يتصور وجودٌ بدونها10. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وعلى ربهم يتوكلون)) ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال هو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو خلاصة التفريد، ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة، والخوف، والرجاء، والرضا به رباً وإلهاً، والرضا بقضائه، بل ربما أوصل التوكل بالعبد إلى التلذذ بالبلاء، وعدّه من النعماء، فسبحان من يتفضل على من يشاء بما يشاء، والله ذو الفضل العظيم[11. بل إن التوكل أحد مباني توحيد الإلهية؛ كما يدل على ذلك قوله الحق تبارك وتعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}. ولشرفه وأهميته، وعلو مكانته ومنزلته فإنه لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين؛ كما في صفة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب والذي فيه: ((هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)) ثم دخل ولم يبين لهم ما هي صفاتهم؟ – فخاض القوم في أولئك السبعين، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فخرج عليهم فقال: ((هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون))12.

وهو صفة من صفات عباد الله المؤمنين، وسمة وميزة يتميزون به عمن سواهم من الناس، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2]. وأما حقيقة التوكل على الله فتكمن في أنه هو العبادة لله وحده لا شريك له، وصدق الاستعانة به قرينان متلازمان، كما قال الله لنبيه: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}[هود: 123]. ولذلك فقد جمع الله بين العبادة والاستعانة في غير ما موضع كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. ولذلك فقد جاء في القرآن الآمر بالأخذ بالأسباب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ}[النساء: 71]، وقال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}[الأنفال: 60]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك: 15]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الجمعة: 9-10]. وغير ذلك من الآيات التي تأمر بالأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله.

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، وخير خلق الله أجمعين، يعلمنا كيفية التوكل على الله حقيقة من خلال حياته، فإنه صلى الله عليه وسلم: لما نزل مع أصحابه في واد فعلق سيفه في شجرة، فتفرق الناس في الوادي يستظلون في الشجر، فلم يرعهم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم فأتوه، فإذا بشخص، وسيف ساقط، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن رجلاً أتاني وأنا نائم فاتخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتاً في يده أي مسلولاً . فقال: من يمنعك مني؟! قلت: الله!. ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قلت: الله!. قال: فشام السيف فهاهو ذا جالس)) ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم.13. وكذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الغار، وأبو بكر خائف على النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من خوفه على نفسه فيقول: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى ما بين قدميه لأبصرنا14، قال يا أبا بكر: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!))15.

فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لذلك الأعرابي عندما قال له: من يمنعك مني؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله) وهو واثق كل الثقة بأن الله سيمنعه وسيحفظه من شر ذلك الأعرابي وغيره، ولن يستطيع أحد أن يصل إليه.

فيأخذ المسلم درساً من هذه القصة بأن الله مع عباده المؤمنين ولن يتركهم، وما عليهم إلا أن يتوكلوا عليه بصدق ولمن يصيبهم إلا ما كتب الله عليهم.

وصلى الله وسلم نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 رواه أحمد (205)، والترمذي (2344)، وابن ماجة (4164)، وصححه الألباني.

2 رواه البخاري (847) ومسلم (252).

3 رواه البخاري (6464) ومسلم (1497) واللفظ له.

4 جامع العلوم والحكم لابن رجب (409).

5 التعريفات (74).

6 رواه البخاري (2639)، ومسلم (1880).

7 انظر مجموع الفتاوى (7/16).

8 مدارج السالكين (1/81).

9 مدارج السالكين (2/113).

10 مدارج السالكين (1/136).

11 تيسير العزيز الحميد صـ(80).

12 رواه البخاري (5378)، ومسلم (220).

13 رواه البخاري (2756) ومسلم (843) واللفظ له.

14 أي ما بيننا وبين الهلاك إلا نظرة إلى تحت القدم من قبل المشركين.

15 رواه البخاري (4386) ومسلم (2381).