الأعمال بالخواتيم

 

 

الأعمال بالخواتيم

الحمد العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والصلاة والسلام على خير من وطئ الثرى، وعلى آله وصحبه ومن بهديهم اهتدى، أما بعد:

ومع جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، مع من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌّ يوحى، وهو حديث حري بأن يقف كل مسلم عنده، وأن يتأمل فيه؛ وذلك لأنه شاملٌ لجميع مراحل حياة الإنسان منذ التكوين في الرحم وحتى الموت، وقد أحببت أن أقف وإياكم عنده، ومن الله وحده نستمد العون.

نص الحديث: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود   قال: حدّثنا رسول الله   وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكَتْب رزقه، وأجله، وعمله،وشقي أو سعيد، فو الله الذي لا إله غيره إن أحد كم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))1.

شرح الحديث:

يُبين النبي   في هذا الحديث مسائل عدة، من بيان كيفية خلق الإنسان، والأطوار التي يمر بها الإنسان في بطن أمه، وبيان عقيدة القضاء والقدر، التي هي ركن من أركان الإيمان، ثم بيان لما يختم به للإنسان من خير أو شر بحسب عمله، فقال النبي  ، وهو يبين كيفية تكوين الإنسان في بطن أمه: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه)) والمقصود بالجمع هنا جمع ماء الرجل وماء المرأة؛ كما قال الله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}[الطارق: 6، 7]. قال القرطبي رحمه الله-: “المراد أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثاً متفرقاً، فيجمعه الله تعالى في محل الولادة من الرحم”.

قوله: (أربعين يوماً نطفة) هذا هو الطور الأول، أو المرحلة الأولى من مراحل تكوين الجنين، وذلك بعد التقاء الحيوان المنوي مع البويضة، والنطفة أصلها الماء الصافي، وجمعها نطاف، والمراد بالنطفة هنا المني، ويشهد لذلك قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى}[القيامة: 37]. قوله: ((ثم يكون علقة مثل ذلك)) هذا هو الطور الثاني من الأطوار التي يمر بها الجنين، والعَلَقَة: عبارة عن دم جامد غليظ، ويشهد لهذا الطور قول ربنا: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}[العلق:2]. قوله: ((ثم يكون مضغة مثل ذلك))وهذا هو الطور الثالث من الأطوار التي يمر بها الجنين،

والمضغة: عبارة عن قطعة لحم. ويشهد لمرور الجنين بهذه الأطوار الثلاثة؛ صريح الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِمُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}[الحج: 5]. وقوله: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون: 4].

وأما من السنة فحديثنا الذي نحن بصدد شرحه خير دليل، وغير ذلك من الأدلة. قوله: ((ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح))ويكون ذلك بعد مضي مائة وعشرين يوماً، من اجتماع الزوجين، والمقصود بالروح ما يحيى به العبد؛ كما قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}[الإسراء: 85]. ثم بعد أن ينفخ فيه الروح، يؤمر الملك بكتب ما سيكون لهذا الجنين الذي مازال في بطن أمه في المستقبل، من غنى أو فقر، وصحة ومرض، وطول عمر، أو قصره، وعمل صالح أو فاسد،

وشقاوة أو سعادة، وما أشبه ذلك، وذلك قوله  : ((ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه)) فإذا كان الأمر كذلك, فلماذا يخاف الإنسان على رزقه، ولماذا اليأس والقنوط؟ قوله: ((وأجله)) أي تحديد كم سيكون عمره، وهل سيموت في الصغر، أو في مرحلة الشباب، أم في مرحلة الكبر، وهل سيموت بالغرق أم بالهدم أم بالقتل أم وهو نائم على الفراش،

ونحو ذلك من الأسباب التي تعدد وتتنوع، ولكن الموت واحد. قوله: ((وعمله)) أي أنه سيكون من الذين يعملون الصالحات، أم الذين يعملون السيئات. ((وشقي أو سعيد)) هذا ليس فيه أي حجة لأولئك الذين إذا دعوا إلى الاستقامة على أوامر الله، والتمسك بسنة نبيه، قالوا لم يهدنا الله بعدُ،

وكذلك ليس فيه حجة لأولئك الذين يقولون: إن الله قد كتب علينا الشقاوة, فلماذا العمل، فيتركون العمل، وإنما يُردُّ عليهم بحديث علي بن أبي طالب عن النبي   أنه قال: ((ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة)) فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة)) ثم قرأ:{فَأَمَّامَن أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل: 5]2.

وعن عمران بن حصين أن رجلاً قال: يا رسول الله، أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: (نعم) قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: ((كل يعمل لما خلق له، أو لما يسر له))3.

قوله: ((فو الله الذي لا إله غيره))في هذا جواز حلف الواعظ أو الخطيب على الأمر المهم لتأكيد الخبر في نفس السامع. قوله: ((إن أحد كم ليعمل بعمل أهل الجنة))جاء في رواية أخرى تبين أن هذا العامل كان يعمل العمل الظاهري مع خلو قلبه من الأعمال القلبية، أو ما يمكن أن نطلق عليه النفاق العملي: ((إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار))4.

وهذه الرواية تحل كثيراً من الإشكالات التي قد يفهمها بعض الناس من أنَّ فلاناً من الناس الذي كان ظاهره الصلاح، فكانت خاتمته سيئة، فلماذا أفعل، وسيختم لي بنفس تلك الخاتمة السيئة التي كانت نهاية فلان من الناس، فيركن إلى الدنيا، ويدع العمل، فيخسر في الدنيا والآخرة، أو أنه يسوف بالتوبة، ويقول سأتوب في آخر عمري، أو سأفعل، وهكذا.. فيبغته الموت وهو على تلك الحال!!. ولذلك فقد كان خير هذه الأمة أصحاب النبي   ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم من النفاق -وحاشاهم من ذلك- ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة، فيخرجه إلى النفاق الأكبر، وذلك أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة. وبالجملة فإن الخواتيم ميراث السوابق.

قوله: ((حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) المقصود بسبق الكتاب هو الكتاب الذي سبق في العلم، أو الذي سبق في اللوح المحفوظ، أو الذي سبق في بطن الأم. قوله: ((وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار)) جاءت كذلك نفس الرواية السابقة: ((وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة)).

قوله: ((حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع)) ليس المراد بالذراع هنا المسافة المعروفة، وإنما هو تمثيل وتقريب، وذلك أن الكافر إذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم لم يتمكن من فعل الصالحات، فمات بعد قوله تلك الكلمة دخل الجنة، بدليل حديث أصيرم بني عبد الأشهل فإن أبا هريرة يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يُصلِّ قط. فإذا لم يعرفه الناس سألوه: من هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل، عمرو بن ثابت بن وقش. وكان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم خرج الرسول  إلى أحد بدا له في الإسلام فأسلم، ثم أخذ سيفه فعدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة. فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم، ما جاء به؟ فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحَدَبٌ على قومك أم رغبة في الإسلام؟. قال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي فغدوت على رسول الله ، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني. ثم لم يلبث أن مات في أيديهم،فذكروه لرسول الله   فقال: ((إنه من أهل الجنة))5.

والمسلم الذي كان ظاهره الصلاح إذا تكلم في آخر عمره بكلمة الكفر – والعياذ بالله-دخل النار.

قوله: ((فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))يقال فيه ما قيل في سبق الكتاب لمن عمل بعمل أهل الجنة، فسبق الكتاب عليه فكانت نهايته مأساوية، فعمل بعمل أهل النار.

فوائد الحديث:

1.  الحث على الدعاء بالثبات على الدين، فقد كان   يدعو ربه بالثبات على الدين حتى يلقاه على ذلك، فعن أنس   قال: قال رسول الله  : ((يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك))6.

2.    الحث على الاستعاذة من سوء الخاتمة، لذلك كان سلف الأمة يخافون من سوء الخاتمة.

3.    أن العمل الصالح سبب لدخول الجنة، وكذلك العمل السيئ سبب لدخول النار.

4.    وجوب شكر نعمة الله على عباده، حيث خلقهم وأوجدهم وصورهم في أحسن صورة.

5.    أنه يجب على الإنسان أن يعمل الخير، ويترك السوء، وذلك أنه لا يعلم الشقاوة أو السعادة أحد غير الله وحده لا شريك له.

6.    الاطمئنان على الرزق، والقناعة بالقليل، لأنه لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها،ولكن يجب الأخذ بالأسباب.

7.    أن الأعمال السيئة أو الحسنة علامات للشقاوة أو السعادة، وليست بموجبات لذلك.

8.  استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أن الجنين إذا خرج بعد أربعة أشهر فإنه يصلى عليه؛ لأنه قد نفخت فيه الروح، وهذا ما ذهب إليه أحمد، وهو أحد قولي الشافعي وإسحاق7.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 رواه البخاري (7016) ومسلم (2643).

2 رواه البخاري (4665) ومسلم (2647).

3 رواه البخاري (6223).

4 رواه البخاري (2742) ومسلم (112).

5 رواه أحمد (23632)، وقال محققو المسند: “إسناده حسن”.

6 رواه الحاكم وصححه الألباني في الجامع رقم (7865).

7 جامع العلوم والحكم (1/135- 157).