الغش مظاهره ومضاره

الغش مظاهره ومضاره

الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] أما بعد:

أيها الناس: فإن هناك صفة ذميمة، وفعلة شنيعة، وظاهرة قبيحة، لم يكد يسلم منها – إلا من رحم ربي – إنها ظاهرة الغش، تلك الظاهرة التي جاءت الأحاديث الصريحة الصحيحة بذمها، والتحذير منها؛ فعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا1، وعنه  أن رسول الله مرّ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق  الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني2. وضابط الغش – عباد الله – ما قاله ابن حجر الهيثمي – رحمه الله -: “الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع، أو مشتر؛ فيها شيئاً لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذ بذلك المقابل”3.

أيها المسلمون: إن للغش صور مختلفة، وأشكال متنوعة؛ يعسر علينا في هذا المقام حصرها، فالغش يكون في أبواب كثيرة، بل إنَّ الدين كله يقوم على النصيحة، فمن غش في دينه فليس بناصح، بل هو غاش؛ عن أبي رقية تميم الداري  أن رسول الله  قال: الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم4. ولكل غاش طريقته ووسيلته في الغش والخديعة، ولكننا رأينا أن نشير إلى بعض صور الغش وذلك كما يقال: “بالمثال يتضح المقال”؛ فمن صور الغش المتعددة؛ الغش في البيوع وغيرها من المعاملات، وما أكثر هذه الصور في زماننا!! قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: “والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب، وتدليس السلع؛ مثل أن يكون ظاهر المبيع خيراً من باطنه كالذي مر عليه النبي ، وأنكر عليه، ويدخل في الصناعات مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز، والطبخ، والعدس والشواء وغير ذلك، أو يصنعون الملبوسات كالنساجين، والخياطين ونحوهم أو يصنعون غير ذلك من الصناعات فيجب نهيهم عن الغش، والخيانة، والكتمان”5. وقد سئل ابن حجر الهيثمي رحمه الله سؤالاً طويلاً ذكر فيه السائل بعضاً من صور الغش في البيوع، فكان مما أجاب به ابن حجر – رحمه الله – أن قال: “وَلَعَمْرِي إنَّهُ حَقِيقٌ أَنْ يُفْرَدَ بِالتَّأْلِيفِ لِسَعَةِ أَحْكَامِهِ، وَكَثْرَةِ صُوَرِهِ، وَاحْتِيَاجِ النَّاسِ، بَلْ اضْطِرَارُهُمْ إلَى بَسْطِ الْكَلَامِ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا لِغَلَبَةِ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ عَلَى الْبَاعَةِ حَتَّى لَا يَسْلَمَ مِنْهُمَا إلَّا النَّادِرُ الَّذِي حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ, وَلَوْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لَأَفْرَدْت ذَلِكَ بِتَأْلِيفٍ مُسْتَوْعِبٍ جَامِعٍ لَكِنِّي أُشِيرُ – إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى – إلَى مَا يَنْفَعُ الْمُوَفَّقَ، وَيُحَذِّرُ الْعَاصِيَ، وَمَنْ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ هِدَايَتَهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ”6. والأحاديث – أيها التجار – في التحذير من الغش كثيرة جداً.. فمن تأملها، ووفقه الله لفهمها، والعمل بها؛ انفك عن الغش، وعلم عظيم قبحه وخطره، وأن الله لا بد أن يمحق ما حصله الغاشون بغشهم .. فمن تأمل تلك الأحاديث علم – أيضاً – أن كل من علم بسلعته عيباً وجب عليه وجوباً متأكداً بيانه للمشتري، وكذلك لو علم العيب غير البائع كجاره وصاحبه، ورأى إنساناً يريد أن يشتري ولا يعرف ذلك العيب؛ وجب عليه أن يبينه له7. وكثير من الناس لا يهتدون لذلك أو لا يعملون، يمر الشخص منهم فيرى رجلاً غريباً يريد شراء شيء فيه عيب وهو لا يدري فيسكتون عن نصحه؛ حتى  يغشه البائع، ويأخذ ماله بالباطل، وما درى الساكت على ذلك أنه شريك البائع في الإثم، والكبيرة، والفسق المترتب عليه ذلك الوعيد الشديد وهو أن الغاش الذي لم يبين العيب للمشتري لا يزال في مقت الله، أو لا تزال الملائكة تلعنه، ويؤيد ذلك قوله : من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة8، ولا شك أن الغاش سنّ تلك السنة السيئة، وهو كتمه للعيب في ذلك المبيع، فكل عمل كذلك في ذلك المبيع يكون إثمه عليه9. والغش في البيع كبيرة من كبائر الذنوب؛ كما عده الحافظ ابن حجر – رحمه الله – حيث قال: “عدّ هذه كبيرة هو ظاهر ما في هذه الأحاديث من نفي الإسلام عنه، مع كونه لم يزل في مقت الله، أو كون الملائكة تلعنه”10.

أيها المسلمون: ومن صور الغش؛ الغش في الزواج؛ فعلى سبيل المثال أنَّ بعض الآباء قد يخفي مرضاً أو عيباً في ابنته، ولا يبينه للخاطب ليكون على بينة، فإذا دخل بها اكتشف ما فيها من مرض أو عيب، أليس هذا غشاً يترتب عليه مفاسد عظيمة في حق الزوج والزوجة؟! وبعض الأولياء يعمد إلى تزويج موليته دون بذل جهد في معرفة حال الخاطب، وتمسكه بدينه وخلقه، وفي هذا غش للزوجة، وظلم لها.

ومن صور الغش – أيها الناس – الغش في النصيحة وذلك بعدم الإخلاص فيها، والقصد من بذلها أغراض دنيوية، وأغراض دينية، ومن حق الأخُوّة بين المؤمنين أن يتفانى الأخ في نصح أخيه، ويمحص له ذلك، فالمؤمنون نَصحة، والمنافقون غششة، والمؤمن مرآة أخيه إذا رأى فيه عيباً أصلحه، والنصيحة تكون بكف الأذى عن المسلمين، وتعليمهم ما يجهلونه من دينهم، وإعانتهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، بجلب النافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخوُّلهم بالموعظة الحسنة، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه روى الحافظ أبو القاسم الطبراني بإسناده أن جرير بن عبد الله البجلي  أمر مولاه أن يشتري له فرساً، فاشترى له فرساً بثلاثمائة درهم، وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن، فقال جرير لصاحب الفرس – وانظر إلى النصيحة: “فرسك خير من ثلاثمائة درهم، أتبيعه بأربعمائة درهم؟” قال: ذلك إليك يا أبا عبد الله، فقال: “فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم؟” ثم لم يزل يزيده مائة فمائة، وصاحبه يرضى، وجرير يقول: “فرسك خير إلى أن بلغ ثمانمائة فاشتراه بها” فقيل له في ذلك فقال: “إني بايعت رسول الله  على النصح لكل مسلم”11، والغش في النصيحة من كبائر الذنوب الباطنة12، أسأل الله أن يجعلنا من الناصحين لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أيها الناس: ومن صور الغش؛ الغش للرعية؛ فعن معقل بن يسار المزني  أنه قال في مرضه الذي مات فيه: سمعت رسول الله  يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة13، وفي لفظ للبخاري: ما من مسلم يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه؛ لم يجد رائحة الجنة فهذا وعيد شديد يدخل فيه كل من استرعاه الله رعيّة سواءً كانت صغيرة أم كبيرة، ابتداءً من أفراد الأسرة إلى الحاكم، فيجب على الكل النصح لرعيته، وعدم غشهم، فمثلاً الموظف يجب عليه أن ينصح في وظيفته، وأن يؤديها على الوجه المطلوب شرعاً دون غش، ولا خداع، ودون تأخير لأعمال الناس ومصالحهم، وليعلم أنه موقوف بين يدي الله ​​​​​​​ فما ولاه الله ​​​​​​​ هذه الوظيفة إلا ليديم النصح للمسلمين، وكذلك الأب يجب عليه أن ينصح أولاده، وألا يفرط في تربيتهم؛ بل يبذل كل ما يستطيع ليقي نفسه وأولاده من نارٍ وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد، قال ابن القيم – رحمه الله -: “وكم ممن أشقى ولده، وفلذة كبده في الدنيا والآخرة؛ بإهماله، وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء”14. وقد عد الحافظ الذهبي الغش للرعية كبيرة من كبائر الذنوب، مستدلاً على ذلك بآيات عديدة، وأحاديث صحيحة صريحة15.

ومن صور الغش: الغش في الامتحانات، وما أكثر طرقه ووسائله بين الطلاب والطالبات!! وسبب ذلك هو ضعف الوازع الديني، وقلة المراقبة لله – تعالى – أو انعدامها؛ قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله -: “قد ثبت عن رسول الله  أنه قال: من غشنا فليس منّا، وهذا يعم الغش في المعاملات، والغش في الامتحان، ويعمّ اللغة الإنجليزية وغيرها، فلا يجوز للطلبة والطالبات الغش في جميع المواد لعموم هذا الحديث، وما جاء في معناه، والله ولي التوفيق”.

هذه بعض مظاهر الغش، وهي غيض من فيض، وقطرة من بحر، ليحيا من حيي على بيّنة، ويهلك من هلك على بيّنة.

والغش – أيها الناس – له مضار عديدة، وأخطار جسيمة؛ فمن مضاره: أنه طريق موصل إلى النار – والعياذ بالله -، وهو دليل على دناءة النفس وخبثها، وسبب من أسباب البعد عن الله، وعن الناس، وهو طريق لحرمان إجابة الدعاء، وحرمان البركة في المال، والعمر، وهو دليل على نقص الإيمان، ومن مضاره أنه يورث سخط الناس ومقتهم، قال ابن حجر – رحمه الله – وهو يجيب على سؤال ذكر فيه السائل كثيراً من صور الغش: “وكثرة ذلك – أي الغش – تدل على فساد الزمان، وقرب الساعة، وفساد الأموال والمعاملات، ونزع البركات من المتاجر والبياعات والزراعات، بل ومن الأراضي المزروعات .. وتأمل قوله : ليست السنة بأن لا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً16. نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.


1 رواه مسلم (101).

2 رواه مسلم (102).

3 الزواجر (1/239).

4 رواه مسلم (55).

5 مجموع الفتاوى (28/72).

6 راجع الزواجر (1/239) وما بعدها.

7 لحديث: الدين النصيحة وحديث مبايعة جرير بن عبد الله  للنبي  وفيه: والنصح لكل مسلم وغير ذلك من الأدلة.

8 رواه مسلم بلفظ: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء رقم (1017).

9 الزواجر (1/239) وما بعدها.

10 الزواجر (1/238).

11 رواه مسلم (56).

12 راجع الزواجر، فقد عد الغش الكبيرة الخامسة. و مطوية: ” الغش.. تعريفه، مظاهره و مضاره) زاهر الشهري. دار القاسم.

13 رواه البخاري (6731) ومسلم (142) واللفظ له.

14 تحفة المودود صـ (146).

15 انظر ذلك مفصلاً في الكبائر (72- 76).

16 رواه مسلم (2904).