الخشوع

الخشوع

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فسنتطرق في هذا المبحث إلى تعريف الخشوع ومعانيه وشيء من الأدلة على كونه من أعمال القلب، ودرجاته، وعظيم فضله، ونختم بذكر نماذج من الخاشعين.

 فنقول -وبالله نستعين-:

أولاً: تعريفه:

لغة: مصدر خشع يخشع وهو مأخوذ من مادة (خـ  ش  ع) التي تدل -كما يقول ابن فارس- على معنى واحد وهو التطامن، يقال خشع فلان، إذا تطامن وطأطأ رأسه. فهو التذلل والخضوع والسكون1.

واصطلاحاً: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والتذلل. وقال الجنيد لما سُئل عن الخشوع: تذلل القلوب لعلام الغيوب.

 وقال ابن القيم رحمه الله: والحق أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار2.

ثانياً: معانيه:

ذكر بعض المفسرين أن الخشوع في القرآن على أربعة أوجه:

أحدها: الذل، ومنه قوله عز وجل: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}[طه: 108].

الثاني: سكون الجوارح، ومنه قوله عز وجل: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون: 2].

الثالث: الخوف، ومنه قوله تعالى في الأنبياء: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء: 90].

الرابع: التواضع، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة: 45].

وقد يضاف إلى ذلك وجهٌ خامسٌ: وهو الجمود واليبس وعدم الحركة؛ كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً}[فصلت: 39].

ثالثاً:الأدلة على كون الخشوع من عمل القلب:

قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}[الحديد: 16].

وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها"3.

فالخشوع محله القلب، فإذا خشع  القلب تبعته الجوارح كلها؛ ولهذا لما رأى سعيد بن المسيب رحمه الله رجلاً يعبث في صلاته، قال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه4.

 وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: استعيذوا بالله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يُرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع5.

وقال الفضيل بن عياض  رحمه الله: كان يُكره أن يُرى الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه6.

وقال سهل التستري: من خشع قلبه لم يقرب منه شيطان7.

ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: يا صاحب الرقبة! ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب8.

وحكى القشيري وابن القيم الإجماع على أن الخشوع محله القلب9.

رابعا:ً درجاته:

قال ابن القيّم: قال صاحب المنازل: وهو أي الخشوع على ثلاث درجات:

الأولى: التّذلّل للأمر، والاستسلام للحكم، والاتّضاع لنظر الحقّ. أمّا التّذلّل للأمر فهو تلقّيه بذلّة القبول والانقياد والامتثال مع مواطأة الظّاهر الباطن، وإظهار الضّعف، والافتقار للهداية. وأمّا الاستسلام للحكم فيشمل الحكم الشّرعيّ بعدم معارضته برأي أو شهوة، كما يشمل الحكم القدريّ بعدم تلقّيه بالتّسخّط والكراهة والاعتراض، وأمّا الاتّضاع لنظر الحقّ فهو اتّضاع القلب والجوارح، وانكسارها لنظر الرّبّ إليها واطّلاعه على تفاصيل ما فيها.

الثّانية: ترقّب آفات النّفس والعمل، ورؤية فضل كلّ ذي فضل، ويتحقّق ذلك بانتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبها لك، وذلك يجعل القلب خاشعاً لا محالة لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما من الكبر والعجب، وضعف الصّدق، وقلّة اليقين، وتشتّت النّيّة، أمّا رؤية فضل كلّ ذي فضل فيتحقّق بمراعاة حقوق النّاس وأدائها، ولا ترى أنّ ما فعلوه من حقوقك عليهم؛ فلا تعاوضهم عليها، فإنّ هذا من رعونات النّفس وحماقاتها، ولا تطالبهم بحقوق نفسك، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة يقول: العارف لا يرى له على أحد حقّا، ولا يشهد له على غيره فضلا، ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب.

الثّالثة: حفظ الحرمة عند المكاشفة، وتصفية القلب من مراءاة الخلق، ويعني ذلك ضبط النّفس بالذّلّ والانكسار عن البسط والإذلال الّذي تقتضيه المكاشفة لأنّها توجب بسطا يخاف منه شطح إن لم يصحبه خشوع يحفظ الحرمة. مع إخفاء أحواله عن الخلق جهده10.

 

 خامساً: فوائده:

1.    يورث الخوف والرهبة من الله.

2.    الفوز بالجنة.

3.    مظهر من مظاهر الإيمان.

4.    رفعة لصاحبه يوم القيامة.

5.    دليل على صلاح العبد واستقامته.

6.    إعلان العبودية لله ونبذ ما سواه.

7.    يبعد القسوة من القلب.

8.    تكفير للذنوب وتعظيم الأجر.

9.    نجاة من عذاب القبر.

10.          سبب لغض البصر وخفض الجناح.

11.          لا يقرب صاحبه شيطان11.  وغير ذلك من الفوائد.

نماذج من حياة الخاشعين:

* سيد الخاشعين رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ؟" قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟. قال: ((فإني أحب أن أسمعه من غيري))، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}[النساء: 41]، قال: ((أمسك)) فإذا عيناه تذرفان12.

 وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة، قال: ((وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين…)) وإذا ركع قال: ((اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي…))13.

عبد الله بن الزبير- الشجاع المقدام العابد الزاهد-:

قال عمر بن عبد العزيز يوماً لابن أبي مليكة: صف لنا عبد الله بن الزبير.. فقال: والله ما رأيت نفساً ركبت بين جنبين مثل نفسه .. ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها.. وكان يركع أو يسجد، فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله، لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده إلا جداراً، أو ثوباً مطروحاً.. ولقد مرّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي، فوالله ما أحسّ بها ولا اهتز لها، ولا قطع من أجلها قراءته، ولا تعجَّل ركوعه .!!.

 علي بن الحسين رضي الله عنه:

كان علي بن الحسين رضي الله عنهما إذا توضأ اصفر وتغير، فيُقال: ما لك؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟14.

حاتم الأصم:

سئل حاتم الأصم رحمه الله عن صلاته فقال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، وأكبر تكبيراً بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعاً بتواضع، وأسجد سجوداً بتخشع، وأقعد على الورك الأيسر، وأفرش ظهر قدمها، وأنصب القدم اليمنى على الإبهام، وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا؟!

هذه بعض النماذج وإلا فأكثر السلف الصالح من العلماء والدعاة والعباد وطلبة العلم وكثير من عامة الناس على هذا المنوال، وعلى هذه الشاكلة، كانوا يقومون لله بالخشوع والخضوع وإخلاص العمل، حتى أصلح الله على أيديهم أناساً كثيرين؛ بسبب إصلاحهم لأنفسهم وقربهم من ربهم..

اللهم إنا نسألك الخشوع في جميع أعمالنا، ونعوذ بك من قسوة القلوب.. فأنت الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.


1 للاستزادة انظر مقاييس اللغة لابن فارس (2/182)، والصحاح للجوهري (3/1204)، والنهاية لابن الأثير (2/34)، ولسان العرب لابن منظور (8/71)، ومختار الصحاح للرازي (ص 176).

2 مدارج السالكين (1/558-559) بتصرف.

3 أخرجه مسلم (2722).   

4 انظر الزهد لابن المبارك (صـ 419).

5 المصدر السابق (صـ 176).

6 مدا رج السالكين (1/559).

7 مدارج السالكين (1/559).

8 مدارج السالكين (1/559).

9 انظر الرسالة القشيرية (1/382)، ومدارج السالكين (1/559).

10 مدارج السالكين (1/ 559- 560) باختصار وتصرف يسير.

11 موسوعة نضرة النعيم (5/1837) بتصرف.

12 رواه البخاري (4306) واللفظ له، ومسلم (800).

13 رواه مسلم (771).

14 للاستزادة انظر صلاح الأمة في علو الهمة، فقد ذكر مؤلفه نماذج عدة في الخشوع منهم: عامر بن قيس، وإبراهيم التيمي، والأوزاعي وغيرهم.