فضل العلم وأهله

فضل العلم وأهله

اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الشكر على عظيم فضلك وامتنانك، ونصلي ونسلم على أفضل رسلك وخير عبادك، وعلى آله الكرام، وصحابته العظام، وكل من كان لطريق الحق سالك، وسلم تسليماً كثيراً .. أما بعد:

عباد الله:

لقد أثنى الله ​​​​​​​ على العلم وأهل العلم في أكثر من آية في كتاب الله، وما ذلك إلا لشرف العلم، وعظم منزلة العلماء عند الله، وذلك الثناء قد جاء من عدة طرق: فقد أثنى عليهم عندما قارن حالهم بحال أهل الجهل العُمي الذين لا يعقلون فقال: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [الرعد:19]، وأشهد أهل العلم على أعظم حقيقة في الوجود وهي حقيقة الإنفراد بالألوهية، وأن ما سوى الله مما يعبد هو باطل فقال الله ​​​​​​​: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، ورفع الله منزلة العلماء على غيرهم من الناس فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، وبيَّن أن الذين يتأثرون بالقرآن، ويخشعون عند سماع آياته؛ هم أهل العلم بالله وأهل خشيته فقال: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا [الإسراء:107]، وفي يوم القيامة يكونون شهداء على ما فعله المجرمون، ويبينون لهم أنهم كانوا في ضياع وتمزيق للعمر، وذلك يوم يُقسِم الكفار أنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا ساعة واحدة! فقال ​​​​​​​ : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ۝ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الروم:55-56]، وعندما تختل الموازين، وتختلط المقاييس في حقيقة النظر إلى هذه الدنيا وعطاياها؛ يبين أهل العلم حقيقتها، ويقولون للناس: لا تغتروا بهذه الحياة فإنها ذاهبة فانية، وما عند الله خير وأبقى، وذلك عندما يجعل الناس المقياس في التفاضل والتنافس هو المال والجاه، وكثرة الكنوز، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ونجد هذا واضحاً في قصة قارون لما اغتر الناس بماله، ومظهره، وزينته، فقال الله  عن قارون الجاهل المغرور، وعن الناس الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79]، فأجابهم أهل العلم والفضل العارفين بالله: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80]، وبيَّن ​​​​​​​ أن أهل خشيته، والخوف منه، والمحبين له؛ هم أهل العلم الذين يؤدون العبادة تعظيماً لله، وحباً له، ورغبة فيما عنده من جزاء، ومن ذلك قيام الليل الذي لا يفعله ولا يقوم به إلا من عرف الله، وما أعده من الجزاء في الآخرة للعاملين، ثم فارق بين هؤلاء وبين الجاهلين الذين لم يقدروا الله حق قدره، وبالتالي لم يؤدوا العبادة كما ينبغي لجلال الله، وعظيم سلطانه فقال سبحانه: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [الزمر:9].

أيها المسلمون: هذه منزلة العلم وأهله عند الله ​​​​​​، فهل نسعى إلى طلب العلم فنكون من المقربين؟ أم نظل في الأماني نتردد، وفي الأحلام نسبح، وفي التسويف نغرق؟ لقد بيَّن الرسول  فضيلة العلم والعلماء في أكثر من حديث، فقد ثبت من حديث أبي هريرة  أن رسول الله  ذكر من خصال الخير ثم قال: ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه1، وعن أنس بن مالك  قال: سمعت رسول الله  يقول: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يفعل2، وقال رسول الله : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به بعده، أو ولد صالح يدعو له3.

أيها المسلمون: إن العلم باب لكل خير، وهو رفعة للإنسان في الدنيا كما قال الشاعر:

العلم يَنهضُ بالخسيس إلى العلى والجهل يقعد بالفتى المنسوب4

وقال الآخر:

تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل

وقال صالح بن جناح:

تعلَّم إذا ما كنت ليس بعالم فما العلم إلا عند أهل التعلُّمِ
تعلَّم فإن العلم زَينٌ لأهله ولن تستطيع العلم إن لم تَعلَّمِ
تعلَّم فإن العلم أزين بالفتى من الحُلَّة الحسناء عند التكلُّمِ
ولا خير فيمن راح ليس بعالمٍ بصيرٍ بما يأتي ولا متعلَّمِ5

فهذه أيها الناس منزلة العلم وأهله عند الله ​​​​​​​ ، نسأل الله أن يبلغنا منازل الصالحين، ودرجات العلماء الصادقين، وأن ييسر لنا طلب العلم، وإفناء العمر فيه، إنه على كل شيء قدير.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي فضل مَن شاء مِن خلقه بما شاء، والصلاة والسلام على رسول الله سيد الرسل وخاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه الأوفياء الأتقياء الأصفياء وسلم تسليماً كثيراًً .. أما بعد:

عباد الله: لقد انحسرت معالم العلوم في هذا الزمن، وغلب الجهل على الناس حتى صار العلماء الجهابذة بينهم يعدون على الأصابع، وأصبحت الأمة المحمدية في آخر عهدها غارقة في الجهل، وإذا كانت العلوم الشرعية قد حصل فيها من الضعف الشيء الكثير؛ فلا تكاد تجد من يحفظ العلوم حق الحفظ، ويفهم الدين كما فهمه الأولون، بل غدا طالب العلوم الشرعية في كثير من المجتمعات مهاناً، والمستقيم على الإسلام بعلمه، وتقواه، وعمله بسنة رسول الله  منبوذاً، وهذا الأمر قد كان حاصلاً في مرحلة الانحطاط التي ما أبقت للخير مجالاً، ولا تركت له مقاماً، وأقصد بتلك المرحلة: من أول القرن العشرين الميلادي إلى فترة الستينات والسبعينات وما بعدها بقليل، تلك الفترة التي  سيطرت فيها الدول الغربية الكافرة على بلدان المسلمين، وتعمدت إبقاء الشعوب جاهلة بأمور دينها، وأمور معاشها، بل تعمدوا نشر الخرافات، وتشجيع مظاهر الشرك والإلحاد؛ كتشييد القباب، وعبادة أصحابها، وتعظيم الأوثان، وطمس معالم الدين والعقيدة الإسلامية الصافية، وأما في مجالات الدنيا فلم يتركوا سبيلاً للتجهيل إلا وسلكوه، يعاونهم في ذلك عملاؤهم الذين وضعوهم كوابيس قاتلة للروح الإسلامية الأبية، فانتشر الجهل، وعم البلاء، بل وصل الحال في كثير من دول العالم الإسلامي إلى التنكر لثوابت الشريعة، ومعاداة القائمين بها، والمستقيمين عليها، ورميهم بأنواع من التهم – وإلى الآن – كالرجعية، والتطرف، والإرهاب، والرجوع بالأمة إلى سالف العصر.

ولكن مع مرور الأيام، وتتالي الأعوام؛ أذن الله لهذه الأمة أن تصحو من جديد لتقول للعالم: نحن المسلمون أهل العلم والثقافة والإبداع، وأن ما حصل في عصور الانحطاط ليس بفعلنا ولكنه من فعل الغزاة وأعوانهم من الزنادقة والمنافقين، وبدأت الأمة تعود إلى رشدها، فأسست معاهد للعلم، ومراكز لتعلم العلوم الشرعية، وبدأت – على نحو لا بأس به – تنفض غبار الجهل والخرافة، وتعيد الأمور إلى مجاريها، فقام علماؤها وبينوا الحق وعلموه الناس، فتخرج على أيديهم أناس من حملة الشريعة، ونقلوا تلك العلوم إلى مختلف أصقاع الأرض، وبدأت السنن تنتشر، والبدع تزول، وبدأ أهل الخرافة ينحسرون الذين أضلوا الناس أزمنة مديدة، وأعواماً عديدة؛ عن شريعة الله ​​​​​​​ .

ألا فاتقوا الله عباد الله، وعظموا ما عظم الله، وقدروا ما قدره الله، فإننا في زمان كما قال ابن مسعود – وهو يخاطب أصحابه -: “إنكم أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، قليل سائلوه، كثير معطوه، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير خطباؤه، قليل معطوه، كثير سائلوه، العلم فيه خير من العمل”6. ولتعلموا أيها الناس أن العلم طريق إلى العز والكرامة في الدارين، وتذكروا دائماً قول الرسول  : من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن العلماء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر7.

اللهم يسر لنا طريق طلب العلم، واجعلنا من العلماء العاملين، اللهم إنا نعوذ بك من الجهل والعمى، ونسألك العلم والبصيرة في الدين، إنك أنت العزيز العليم .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1 رواه مسلم (2699).

2 رواه أبو داود (3643)، وأحمد (18100)، وهو صحيح كما في صحيح أبي داود للألباني برقم (3096).

3 رواه مسلم (1631).

4 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1 /85).

5 المصدر السابق (1 /147).

6 المعجم الكبير (3112).

7 رواه الترمذي (2682)، وأبو داود (3643) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (182).