ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فالإنسان يعيش في هذه الحياة دون أن يتنبه إلى الحقيقة التي لا مفر منها، بل إن النفوس البشرية كثيراً ما تغفل عنها، ولا تحب، ولا ترغب في ذكرها؛ لأن هذه الحقيقة تنغص على النفس شهواتها، وتفسد عليها ملذاتها، وتقطعها عن ملذاتها، إنها الحقيقة الحتمية التي كتبها الله على كل حي يقول تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران: 185]، إنها حقيقة يجب أن تستقر في النفس، "حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً، يموت الصالحون يموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص"1.
والله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظاً أكبر، ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن الكريم، "ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله تبارك وتعالى صرح في آية أخرى بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملاً، ولم يقل: أيهم أكثر عملاً، فالابتلاء في إحسان العمل، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[هود: 7]، وقال في سورة الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2]، ولا شكّ أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها هي أن يبتلي أي يختبر بإحسان العمل، فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار، ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل عليه السلام النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذا ليعلمه لأصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أخبرني عن الإحسان))، أي: وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختبار فيه، فبين النَّبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ، والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه، فقال له: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))2.
إن مما جاء به القرآن الكريم هو الحث على الاستعداد للموت، والتزود له؛ لأن ما بعد الموت أشد وأعظم، فالكروب كبيرة، والأهوال شديدة، فالحذر الحذر من التهاون في الطاعات، والتسويف بالمعاصي؛ لأن الله عز وجل يقول محذرا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق: 16]" فالله تعالى يخبر عن قدرته على الإنسان بأنه خالقه، وعلمه محيط بجميع أموره، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر3".
إن هذه الآية، وغيرها من الآيات فيها من الحجج على العباد؛ ليفيقوا من غفلتهم، ويصحوا من سباتهم، ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على الاستعداد لهذه اللحظة، فعن البراء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بل الثرى، ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدوا))4، وقد وعظ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه موعظة بين فيها حال العبد حين يوافيه الأجل، وليس بعد موعظة النبي صلى الله عليه وسلم موعظة، فقد روى البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد بعد، قال: فقعدنا حول النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، ثم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ثم قال: إن الرجل المسلم إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، جاء ملك الموت فقعد عند رأسه، وينزل ملائكة من السماء كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيقعدون منه مد البصر، قال: فيقول ملك الموت: أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فلا يتركونها في يده طرفة عين، فيصعدون بها إلى السماء فلا يمرون بها على جند من ملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه، فإذا انتهى إلى السماء فتحت له أبواب السماء، ثم يشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها؛ حتى ينتهي إلى السماء السابعة، ثم يقال: اكتبوا كتابه في عليين، ثم يقال: ارجعوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم إني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فترد روحه إلى جسده، فتأتيه الملائكة فيقولون: من ربك؟ قال: فيقول: الله، فيقولون: ما دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولون: ما هذا الرجل الذي خرج فيكم؟ قال: فيقول: رسول الله، قال: فيقولون وما يدريك؟ قال: فيقول قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، قال: فينادي مناد من السماء أن صدق فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وأروه منزله من الجنة، قال: ويمد له في قبره، ويأتيه روح الجنة وريحها، قال: فيفعل ذلك به، ويمثل له رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك وجه يبشر بالخير، قال: فيقول: أنا عملك الصالح، قال: فهو يقول: رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي، ثم قرأ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}[إبراهيم: 27]، وأما الفاجر: فإذا كان في قبل من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، أتاه ملك الموت، فيقعد عند رأسه، وينزل الملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيقعدون منه مد البصر، فيقول ملك الموت: أخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينقطع معها العروق والعصب، كما يستخرج الصوف المبلول بالسفود ذي الشعب، قال: فيقومون إليه فلا يدعونها في يده طرفة عين، فيصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون على جند من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ قال: فيقولون فلان بأقبح أسمائه، قال: فإذا انتهى به إلى السماء غلقت دونه أبواب السماوات، قال: ويقال: اكتبوا كتابه في سجين، قال: ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرمى بروحه حتى تقع في جسده قال: ثم قرأ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[الحج: 31]، قال: فتأتيه الملائكة فيقولون: من ربك؟ قال: فيقول: لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن قد كذب فأفرشوه من النار وألبسوه من النار وأروه منزله من النار، فيضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه قال: ويأتيه ريحها وحرها، قال: فيفعل به ذلك ويمثل له رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فقول: أبشر بالذي يسؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، قال: فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يبشر بالشر، قال: فيقول: أنا عملك الخبيث قال: وهو يقول: رب لا تقم الساعة))5.
إن هذا الأثر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لهو أبلغ موعظة، وأبين دلالة بأوجز إيجاز وأوضح بيان، لمن كان له قلب، ولمن تدبر هذا الكلام بقلب، ووعاه بعقل، وعمل ليوم لا مفر منه، واستعد لهذا اللقاء، وهذا الموقف.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل، وأن يردنا إلى دينه مرداً جميلاً، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.