واشوقاه للجنة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله ﷺ، أما بعد:
فإن نعيم الجنة وراحتها يشتاق إليه كل مؤمن بالله واليوم الآخر، ويرغب في بلوغه والوصول إليه كل سابق إلى الخيرات، تارك للمنكرات.
أخي الكريم: إن من حكمة الله – تعالى – أن أخفى ذلك النعيم عن أعين الناس في الحياة الدنيا؛ ليعمل العاملون، ويتنافس في ذلك المتنافسون، ولقد كان السلف الصالح خير مثال في الاشتياق إلى الجنة، والعمل بما يرضي الله، ويقرب من رحمته.
هذا أنس بن النضر في غزوة أُحُد بعدما ما انكشف المسلمون اشتاق إلى الجنة، فاخترق الصفوف، وتقدم نحو الكفار وهو يقول: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ (يَعْنِي أَصْحَابَهُ)، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ (يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ)، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ! قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23]1.
وهذا جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة كان هو القائد العام للغزوة بعد مقتل زيد بن حارثة ، فاقْتَحَمَ جَعْفَرُ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ ثُمّ عَقَرَهَا، ثُمّ قَاتَلَ حَتّى قُتِلَ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا حَبّذَا الْجَنّةُ وَاقْتِرَابُهَا | طَيّبَةً وَبَارِدًا شَرَابُهَا |
وَالرّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا | كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا |
عَلَيّ إذْ لَاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا2 |
ثم لَمّا قُتِلَ جَعْفَرٌ أَخَذَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الرّايَةَ، ثُمّ تَقَدّمَ بِهَا، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ، وَيَتَرَدّدُ بَعْضَ التّرَدّدِ ثُمّ قَالَ:
أَقْسَمْـتُ يَا نَفْـسُ لَتَنْزِلِنّهْ | لَتَنْزِلِــنّ أَوْ لَتُكْرَهِنّهْ |
إنْ أَجْلَبَ النّاسُ وَشَدّوا الرّنّةْ | مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنّةْ |
قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنّةْ | هَلْ أَنْتِ إلّا نُطْفَةٌ فِي شَنّةْ |
وَقَالَ أَيْضًا:
يَا نَفْـسُ إلّا تُقْتَلِي تَمُـوتِي | هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيَتْ |
وَمَا تَمَنّيْتِ فَقَـدْ أُعْطِيـت | إنْ تَفْعَلِـي فِعْلَهُمَا هُدِيت |
زَيْدًا وَجَعْفَرًا؛ ثُمّ نَزَلَ، فَلَمّا نَزَلَ أَتَاهُ ابْنُ عَمّ لَهُ بِعَرْقٍ مِنْ لَحْمٍ فَقَالَ: شُدّ بِهَذَا صُلْبَك، فَإِنّك قَدْ لَقِيت فِي أَيّامِك هَذِهِ مَا لَقِيت، فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ ثُمّ انْتَهَسَ مِنْهُ نَهْسَةً، ثُمّ سَمِعَ الْحَطْمَةَ فِي نَاحِيَةِ النّاسِ فَقَالَ: وَأَنْتَ فِي الدّنْيَا!! ثُمّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَتَقَدّمَ، فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ3.
إن الذي حملهم على اقتحام الأهوال، واسترخاص أرواحهم في ساحات النزال؛ هو الشوق إلى الجنة التي طالما انتظروها، فجاءت ساعة الصفر وهم في أشد الشوق إليها.
ومن مواقف الاشتياق إلى الجنان ما جرى لسعد بن الربيع في غزوة أحد من شم ريح الجنة، ولنترك الرجل الذي شهد الحدث يقص لنا القصة كما هي: عن زيد بن ثابت قال: بعثني رسول الله ﷺ يوم أحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله ﷺ: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأصبته وهو في آخر رَمَق، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت له: يا سعد! إن رسول الله ﷺ يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ قال: على رسول الله ﷺ وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة! وقل لقومي الأنصار: لا عُذر لكم عند الله إن خُلِص إلى رسول الله ﷺ وفيكم شفر يطرف، قال: وفاضت نفسه رحمه الله4. إن شمَّهم لريح الجنة ليس خيالاً ولا تقريباً لذلك بل هو عين الحقيقة، كيف لا وقد قال رسول الله ﷺ عن ريح الجنة وطيبها: وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا5. نسأل الله الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونسأله حسن الختام، والله المستعان.