الغُرور والمغْرورون

الغُـرور والمغْـرورون

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

أقف وإياكم اليوم – أيها المسلمون – مع صفة ذميمة طالما اتصف بها بعض الناس من ذوي النفوس المريضة – نسأل الله السلامة -، صفة من كانت فيه فقد حُرم رِضا الله عنه، وفقَد احترام الناس له، وكانت سبب مذلته وخزيه عند الله في الدنيا والآخرة، تلكم – يا عباد الله – هي صفة الغرور، فما هو الغرور، ومن هم المغرورون؟

الغرور في اللغة هو كل ما غرَّ الإنسان من مال، أو جاه، أو شهوة، أو إنسان، أو شيطان، واصطلاحاً: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع، وجاءت مادة الغرور بصيغ مختلفة في القرآن الكريم لتدل على معان أهمها الانخداع والتعالي المؤدي إلى البطر، ونكران نعم الله على الإنسان، الأمر الذي يحاسب عليه بقوله: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (سورة الانفطار:6) إن هذا الموقف مبني على باطل، كان النهي عن كل أنواع الغرور والاغترار بالدنيا أو بالدين.

أما في السنة الشريفة فيتركز التنبيه على روافد الغرور وهى الإعجاب بالنفس، وهو ظن كاذب بالنفس في استحقاق منزلة هي غير مستحقة لها، وكذلك الكبر الذي ينبني على الإعجاب الخادع، ويؤدي إلى الغرور والتعالي وغمط الحق وفي الحديث: ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: َشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بنفْسِهِ1، وقال – عليه الصلاة والسلام -: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ 2 وما ذلك إلا لأن الكبر والعظمة صفة الرحمن وحده.

والربط بين مولدات الغرور وبينه موضع اهتمام علماء المسلمين الذين كتبوا في الأخلاق والتربية، “فمسكويه” يقرر أن الغرور جهل من الإنسان بعيوبه وجهل بحقيقة هامة هي أن الفضل مقسوم بين البشر لا يكمل الواحد منهم إلا بفضائل غيره، والماوردي يذكر أن الغرور المبني على الكبر والإعجاب يضر بصاحبه قبل غيره؛ لأن غروره يمنعه من أن يستفيد من علم غيره لغروره، ولا يألفه أحد لتكبره فهو معزول عن مجتمعه ممقوت فيه، أما الأصفهاني فيظهر نقص المغرور؛ لأنه يغتر بما ليس يملك من علم، أو عمل، أو مال ونحو ذلك؛ لأن هذا عطية من الله، والعاقل يشكر ولا يغتر، فكيف به إذا استطال أو اغتر، وأما ابن حزم فيدعو الإنسان المغرور المعجب بما عنده أن يفكر ملياً في حاله كيف هو، وفي النعم التي عنده، من أين أتت هل هي كاملة دائمة؟ إلى غير ذلك مما يعيد إليه توازنه، وإلا فمصيبته إلى الأبد.

أما الحارث المحاسبي فقد فصَّل القول في الكبر والإعجاب والغرور باعتبارها أمراضاً نفسية لها خطرها على العقيدة والعبادة، وممارسة الحياة، مبيناً كيف يكون العلاج وسائله، وضوابطه.3

إن إعجاب المرء بنفسه من أعظم المهلكات وفظائع الأمور؛ لأن العُجب باب إلى الكبر والزهو والغرور، ووسيلة إلى الفخر والخيلاء، واحتقار الخلق الذي هو من أعظم الشرور، فهذه الثلاث: الهوى المتبع، والشح المطاع، والإعجاب بالنفس، من جمعها فهو من الهالكين، ومن اتصف بها فقد باء بغضب من الله، واستحق العذاب المهين، فطوبى لمن كان هواه تبعاً لمراضي الله، وطوبى لمن وُقيَ شح نفسه فكان من المفلحين، وعرف نفسه حقيقة فتواضع للحق، وخفض جناحه للمؤمنين4.

إخوتـاه:

الغرور أو العجب أصل يتفرع عنه التيه والزهو، والكبر والنخوة، والتعالي، وهذه أسماء واقعة على معان متقاربة، ولذلك صعُب التفريق بينها على أكثر الناس، فقد يكون العجب لفضيلة في المعجب ظاهرة، فمن معجب بعلمه فيكفهر ويتعالى على الناس، ومن معجب بعمله فيرتفع، ومن معجب برأيه فيزهو على غيره، ومن معجب بنسبه فيتيه، ومن معجب بجاهه وعلو حاله فيتكبر ويتنخى, وأقل مراتب العجب أن تراه يتوفر عن الضحك في مواضع الضحك، وعن خفة الحركات، وعن الكلام إلا فيما لا بد له من أمور دنياه، وعيب هذا أقل من عيب غيره، ولو فعل هذه الأفاعيل على سبيل الاقتصار على الواجبات، وترك الفضول؛ لكان ذلك فضلاً وموجباً لحمده، ولكن إنما يفعل ذلك احتقاراً للناس، وإعجاباً بنفسه، فحصل له بذلك استحقاق الذم، وإنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى. أيها الناس:

من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة، فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه لأتم الناس نقصاً، وأعظمهم عيوباً، وأضعفهم تمييزاً، وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل، ولا عيب أشد من هذين؛ لأن العاقل هو من ميز عيوب نفسه فغالبها، وسعى في قمعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه، إما لقلة علمه وتمييزه، وضعف فكرته، وإما لأنه يقدر أن عيوبه خصال، وهذا أشد عيب في الأرض5. عباد الله:

إن من صور الغرور والمغرورين التي ينبغي الحذر منها، والابتعاد عنها ما ابتلي به الراغبون في التوبة، والعائدون إلى الله في زمننا هذا مرضاً اسمه “غرور التوبة”، وهو من تلبيس إبليس للمسلم؛ فما أن يهتدي المسلم إلى طريق الله ​​​​​​​ ، وما أن تعرف أقدامه الطريق إلى بيت الله؛ فيصلي الخمس في الجماعة، ويحرص على أداء نوافل الصلاة، ونوافل الصيام، ويحرص على السنن الظاهرة، حتى يتسلل غرور التوبة والطاعة إلى قلبه، فالتائب – العائد إلى الله – في أول عهده بالتوبة وفرحته بها يكون أقرب ما يكون من حافة الخطر؛ حيث يتربص له الشيطان ليفسد عليه توبته، فيزينها له، ويجملها في قلبه ويجعله يغتر بها.

إن غرور التوبة يشبه غرور التمادي في المعاصي؛ فكلاهما غرور، وكلاهما يقف خلفه الشيطان؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ (سورة النــور:21). وقال – جل شأنه -: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا (سورة فاطر:6)، بيد أن غرور التوبة أخطر؛ لأنه غرور قد لا يلحظه من الناس إلا نافذو البصيرة من أهل الإيمان من المربين الذين يعرفون الفارق الدقيق بين التوبة الصادقة، والتوبة الزائفة.

فليحذر العائدون إلى الله من تلبيس إبليس بتقنيطهم من رحمة الله، وليعلموا أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، وأن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها، ولينتبه أولئك العائدون إلى الله من الوقوع في حبائل الشيطان بالاغترار بتوبتهم، بالاطمئنان إلى الآخرة والأمن من مكر الله ​​​​​​​ 6.

منَّ الله عليَّ وعليكم بمكارم الأخلاق ومعاليها، وحفظنا من مضارها ومساوئها، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونستغفر الله العظيم ونتوب إليه إنه غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد: فاعلموا رحمكم الله أنه من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، وإن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهـى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين. عبد الله:

إن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، وفي أضاليل الأماني الطائفة بك؛ فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ، وإن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنسها، وفي كل رأي قدرته صواباً فخرج بخلاف تقديرك، وأصاب غيرك وأخطأت أنت، فإنك إن فعلت ذلك، فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك بصوابه، فتخرج لا لك ولا عليك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك، وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم.

إن أعجبت بعملك فتفكر في معاصيك، وفي تقصيرك، وفي معاشك ووجوهه، فوالله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك، ويعفي على حسناتك، فليطل همك حينئذ، وأبدل من العجب تنقصاً لنفسك، وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، وأنه موهبة من الله مجردة، وهبك إياها ربك تعالى، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت.

واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجدُّون في القراءة والإكباب على الدروس والطلب، ثم لا يرزقون منه حظاً، فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه، فصح أنه موهبة من الله تعالى، فأي مكان للعجب ها هنا! ما هذا إلا موضع تواضع وشكر لله تعالى، واستزادة من نعمه، واستعاذة من سلبها، ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم، ثم من أصناف علمك الذي تختص به، فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم من ذلك، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك، واستقصاراً لها، فهو أولى، وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيراً، فلتهن نفسك عندك حينئذ، وتفكر في إخلالك بعلمك، وأنك لا تعمل بما علمت منه، فلعلمك عليك حجة حينئذ، ولقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً, واعلم أن الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالاً وأعذر، فليسقط عجبك بالكلية، ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها كالشعر وما جرى مجراه، فانظر حينئذ إلى من علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة، فتهون نفسك عليك.

وإن أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك، ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيم صرفتها، فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق؛ لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمناً لها، وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بعجبك، ثم تفكر في زوالها عنك بالشيخوخة، وأنك إن عشت فستصير من عدد العيال، وكالصبي ضعفاً. عبد الله:

إن أعجبت بجاهك في دنياك فتفكر في مخالفيك وأندادك ونظرائك، ولعلهم أخساء، وضعفاء سقاط، فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه، ولعلهم ممن يستحيا من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم، وأخلاقهم، ومنابتهم، فاستهن بكل منزلة شاركك فيها هؤلاء. واعلم أنك إن كنت مالك الأرض كلها، ولا مخالف عليك – وهذا بعيد جداً في الإمكان فما نعلم أحداً ملك معمور الأرض كله على قلته، وضيق ساحته، بالإضافة إلى غامرها، فكيف إذا أضيف إلى الفلك المحيط – فتفكر فيما قال ابن السماك للرشيد وقد دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه، فقال له: يا أمير المؤمنين فلو منعت هذه الشربة بكم كنت ترضى أن تبتاعها؟ فقال له الرشيد: بملكي كله، قال: يا أمير المؤمنين فلو منعت خروجها منك بكم كنت ترضى أن تفتدي من ذلك؟ قال: بملكي كله، قال؟ يا أمير المؤمنين أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء! وصدق ابن السماك رحمه الله.

إن أعجبت بمالك فهذه أسوأ مراتب العجب، فانظر في كل ساقط خسيس هو أغنى منك، في تغبط بحالة يفوقك فيها من ذُكِر، واعلم أن عجبك بالمال حمق؛ لأنه أحجار لا تنتفع بها إلا أن تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط، والمال أيضاً غاد ورائح، وربما زال عنك، ورأيته بعينه في يد غيرك، ولعل ذلك يكون في يد عدوك، فالعجب بمثل هذا سخف، والثقة به غرور وضعف.

إن أعجبت بمدح إخوانك لك ففكر في ذم أعدائك إياك؛ فحينئذ ينجلي عنك العجب، فإن لم يكن لك عدو فلا خير فيك، ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس لله تعالى عنده نعمة يحسد عليها عافانا الله، فإن استحقرت عيوبك ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس، وتمثل إطلاعهم عليها، فحينئذ تخجل وتعرف قدر نقصك إن كانت لك مسكة من تمييز7.

اللهم أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم اجعلنا ممن آثروا الآخرة على الدنيا، وآتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ب العالمين.


1 رواه الطبراني في الكبير (651) وابن أبي شيبة  في مصنفه (118)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2607).

2 رواه مسلم برقم (131).

3 من مقال لـ(أ.د/أبو اليزيد العجمي) في كتاب: مفاهيم إسلامية.

4 الفواكه الشهية في الخطب المنبرية لـ(السعدي).

5 من كتاب الأخلاق والسير لـ(ابن حزم). 

7 من كتاب الأخلاق والسير لـ(ابن حزم).