قوا أنفسكم وأهليكم ناراً

قوا أنفسكم وأهليكم ناراً

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله الكريم، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها المسلمون: إن الله قد أوصى بدعامة من دعائم الإسلام، وأسطوان من أساطين هذا الدين؛ ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والنصيحة المستمرة، والأخذ بيد المسيء، ونصر المسلم ظالماً كان أو مظلوماً، وتغيير المنكر باليد، واللسان، والقلب، والغرض من ذلك، والمقصد الشرعي هو إنجاح المهمة النبوية التي جاءت لترسي قواعد الدين في قلوب العباد، ومن هذه القواعد: توحيد الصف، وجمع الكلمة، ولم الشمل، والتآخي والتآلف والتعارف، وقوة المبدأ، وثبات الإيمان في القلوب ثبات الجبال، وأعظم من هذا كله بعد تحقيق العبودية لله – تعالى -؛ الفوز بالجنة، والنجاة من النار.

عباد الله: إن أول من تبدأ به في هذا المضمار نفسك، ثم أهلك وبنوك، وأقاربك، ابدأ بالأقرب فالأقرب فقد قال – تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وقال لرسول الله : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، وهذا مما يدل على أن الأولى بالدعوة والنصح هم الأقربون، وهذا دليل شرعي، ويشهد أيضاً دليل عقلي لا ينكره أحد من الناس وهو: أنه لا يتصور أن يدعو إنسان قوماً إلى أداء الصلاة في وقتها مثلاً وأهله لا يصلون إطلاقاً، سيقول له أحدهم: ابدأ بنفسك، وانظر إلى ذويك أولاً.

قال مجاهد: “قُوا أَنْفُسَكُمْ أوصوا أهليكم بتقوى الله، وأدبوهم”، وعن قتادة: “مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصيته”، وعن علي  في قوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً قال: “علموا أهليكم خيراً”1.

أيها الأب الكريم: أنت محاسب أمام الله – تعالى – عن كل من تعولهم، وسيحاسبك على كل تقصير صدر منك، ما يغني عنك أمام الله – تعالى – إذا جئته وقد علَّمت ابنك أنواع الدراسات، وألبسته أجود الألبسة، وأطعمته أشهى الأطعمة، وأمتعته بخير متاع الدنيا؟ إن هذا كله لن يغني عنك من الله شيئاً ما دام ابنك لم يتخلق بأخلاق الإسلام، عند ذلك سيقول ابنك: يا رب إن أبي هو السبب في معصيتي لك، فإنه لم يربني على طاعتك، وإنما ترك الشارع يربيني، وأهمل تربيتي.

أيها الزوج الكريم: أين زوجتك، هل تجلس في بيتها مع أولادها؟ هل تقوم امرأتك بطاعة الله ​​​​​​​ على أحسن وجه؟ هل تحافظ على الصلوات الخمس؟ هل تزكي مالها؟ هل تصوم فرضها؟ هل تطيع زوجها على وجه يرضي الله ​​​​​​​ ؟ من المسؤول عن ذلك كله؟ إنها ستوجه مقداراً كبيراً من اللوم والذنب عليك، فأنت وليها، وأنت القائم عليها، ولو أمرتها لائتمرت، ولو نهيتها لانزجرت، بل لو لم يوجه إليك لومها هل أنت محاسب أمام ربك العزيز عنها، وعن أعمالها التي خرجت عن الجادة ولم تنصحها، ولم تغير ما وقعت فيه من منكر، ولم تحاول تعديلها؟ نعم أنت مقصر في ذلك، وتحاسب على ذلك التقصير.

أيتها المرأة: هل تعرفين أين تذهب ابنتك؟ وهل تدرين من جلساء ابنك؟ لماذا لم تمثلي القدوة الحسنة لأولادك من بعدك؟

أيها المسلمون: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ2 قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن، الملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه، ودنياه، ومتعلقاته3.

ولهذا فالأب مسؤول عن رعيته مستأمن عليهم، والأم مستأمنة في رعيتها، وبيت زوجها، ومسؤولة عنهم أمام الله – تعالى -، والإمام مستأمن على رعيته محاسب عليهم، وكلٌّ مسؤول ومحاسب عمن استرعاه الله عليه، فلا يحل لامرئ أن يقصر فيما استرعاه الله، واستخلفه عليه. إن الواجب على الراعي أن يقوم بجميع تكاليف وحاجيات الرعية أيًا كانوا؛ ليخفف عن نفسه عظم المسؤولية، وثقل الأمانة الملقاة على كاهله، فيسعى فيما يجلب لهم النفع في الدارين، والمصلحة العامة التي تمس حاجتهم، وتحقق منافعهم.

إن الواجب على الراعي أن يأخذ لرعيته أسباب الهداية، وطرق رقيهم في أمور حياتهم، فإن قصر صار آثماً سيسأل عنهم يوم القيامة.

عباد الله: إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرعاهُ، حفظَ ذلكَ أمْ ضيَّعَ، حتى يسألُ الرجلَ عنْ أهلِ بيتِهِ4 هكذا قال النبي ، فما أنتم قائلون إن سألكم رب العزة هل حفظتم أم ضيعتم؟

أنت أخي الكريم: كيف تعاملت مع أهلك؟ على أي شيء ربيت أولادك؟ بأي شيء أسست أخلاقهم، ولمن بنيت انتماءهم؟ على أي منهج أقمت بيتك؟ بأي تعاليم أنشأت أسرتك؟ ما الذي بذلته من التوجيهات في منزلك؟ وما مدى تغييرك في أهلك؟ وماذا وماذا.

إن الأمر جسيم ومسؤولية أمام الله – تعالى -، فإذا كان الأمر كذلك من أن الراعي مسؤول عن رعيته، وقد جاء أمر الله له بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]؛ فإنه واجب عليه أن يعلمهم ما يقيهم به النار قال زيد بن أسلم: لما نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6] قالوا: يا رسول الله هذا وقينا أنفسنا، فكيف بأهلينا؟ قال: تأمرونهم بطاعة الله، وتنهوهم عن معاصي الله5.

فهذه أمانة أنت مسؤول عنها، فإن الله – تعالى – يقول: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وستحاسب على فعلك وتقصيرك في تربيتهم، وتعريفهم بما يوصلهم إلى الجنة، ويقيهم من النار، وتبدأ بنفسك أولاً، فإن لم تفعل فاعلم أنك خنت الأمانة، وظلمت نفسك.

ولتعلم يا رعاك الله! أن الله قد هيأك لأن تقود أسرتك، وائتمنك على رعايتهم؛ فلا تكن هزيلاً في تحمل المسؤوليات، ضيقاً عن أعبائها، عاجزاً عن تكاليفها، فالمسؤولية بحاجة إلى كفء يقدر على جلب منافعها ما أمكن.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيه ومن والاه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.

أيها المسلمون! إن من أروع ما يقوم به الإنسان في هذه الحياة بعد أداء ما أوجب الله عليه من الفرائض: أن يكون امرأً نافعاً لنفسه، ومن حوله، لا يتباطأ في معروف، يدل على مواطن الخير ومكامن الصلاح، يدعو إلى التقوى، ويوصي بالبر، ويعين على الحق، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، كل هذا؛ ليؤدي حملاً ملقىً على عاتقه ألا وهي مسؤولية الأسرة، والرعية، والنفس أولاً.

هذا عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – حين ولي الخلافة ذهب يتبوأ مقيلاً؛ فأتاه ابنه عبد الملك فقال له: ما تريد أن تصنع يا أبتِ؟ فقال: أي بني أقيل، فقال: أتقيل ولا ترد المظالم إلى أهلها؟ قال: أي بني إني سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم، فقال: يا أمير المؤمنين من أين لك أن تعيش إلى الظهر؟ فقال: أدنُ مني، فدنا منه، فقبل بين عينيه، وقال: الحمد للّه الذي أخرج من ظهري من يعينني على ديني، فخرج ولم يقِلْ6.

وفي هذه القصة انظروا إلى عدة جوانب:

كيف ربى عمر ابنه على طاعة الله، ومراقبته، وخوفه، ليس فقط إلى أن انتفع ابنه في نفسه، بل حتى صار داعياً إلى ذلك.

وانظروا إلى الابن أيضاً كيف يشعر بالمسؤولية أن يقي نفسه النار، ويقي أهله، فالمظالم إذا لم ترد سيحاسب أبوه عليها أمام الله؛ كونه إماماً للمسلمين، وقائماً برعايتهم، وكذا ابنه قد يحاسب على تماديه في كفِّ الظالم، وسلب المظلوم، فلهذا بادر مسرعاً ليقي نفسه وأهله من النار.

وانظروا إلى عمر – رحمه الله – كيف بادر إلى وقاية نفسه من النار بالعمل أيضاً، إذ لا يكفي مجرد القول والنصح بل لا بد من تطبيق الوقاية عملاً وواقعاً.

أيها المسلمون: أنتهي من حيث بدأت، وأذكركم قوله – جل في علاه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

عليكم بتقوى الله في أنفسكم، وأهليكم، وأرحامكم، ومن حولكم من الأقربين؛ فإنكم مسؤولون أمام الله – تعالى – فيما إذا أتوا باطلاً قصرتم في إرشادهم وتوعيتهم بشأنه، ووالله إن العبد ليحاسب أمام الله – تعالى -، ويوم القيامة يفر من أهله وذويه؛ خوفاً وخجلاً وفلَساً؛ لما يكابد من افتقار وندم في ذلك اليوم الرهيب، فيا أخي الكريم! اعمل في دنياك بما يرضي الله – جل وعلا -، وبما يعذرك أمامه، فإنه ليس لمقصر عذر حتى يقوم بما عليه من الأسباب، وأنت تعلم أنه لا أحسن ممن دعا ونصح في الله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، إذن فعلام التهاون، والنار مُعَدَّة لمن خالف أمر الله، وتعدى حدوده؟

نار حرها شديد، وغورها بعيد، لعمري هي من أعظم الوعيد، فاستفق يا رعاك الله، وعلم أهلك ما ينفعهم، ويقربهم إلى الجنة، ويجنبهم النار.

واعلم أنك قبل أن تقوم بواجبك تجاه أهلك فأنت محاسب على واجبك نحو نفسك، فـ

لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثْلَه عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عَظيمُ
وابْدَأْ بنفسك فانهَها عنَ غَيِّها فإِذا انتهت عنه فأنتَ حَكيمُ

حقق القدوة في نفسك أولاً، ولا تنس أهلك ومن حولك، فالأمر محتاج للتكامل في تربية الجميع، وخذ من رسول الله مثلاً وعبرة ودروساً في تربيته لنفسه – وقد أدبه الله فأحسن تأديبه -، فقد كان كلما نزل الوحي عليه بأمر أو نهي وطَّن نفسه لقبول ما جاء به الوحي، وكان في نفسه يتمثل ما في القرآن حتى كان قرآناً يمشي على الأرض، ومع ذلك أيضاً كان يربي أصحابه وأهله ويعلمهم حتى ما ترك شيئاً يوصل إلى الجنة إلا وحثنا عليه، ولا ترك شيئاً يقرب إلى النار إلا وحذرنا منه بأبي هو وأمي ، وهذه وظيفة الأنبياء من قبله  وقد قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ7.

اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 فتح الباري لابن حجر (14-38).

2 صحيح البخاري (844).

3 شرح النووي على مسلم (6-300).

4 مستخرج أبي عوانة (14 /54)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1966) حسن صحيح.

5 شرح ابن بطال (13-294).

6 سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (2-150).

7 صحيح مسلم (3431).