وتكونوا شهداء على الناس

وتكونوا شهداء على الناس

الحمد الله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، والصلاة والسلام على المبعوث إلى كافة الناس محمد، وعلى آله، وأصحابه، وسلم تسليماً مزيداً، أما بعد:

فهذه وقفة قصيرة نقفها مع آية من كتاب الله؛ يقول الله في آخر آية من سورة الحج: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ …[الحـج:78]؛ بل نقف مع جزء من آية مع قوله تعالى: وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فهذه الآية تدل على فضل هذه الأمة؛ حيث أنها ستشهد على بقية الأمم يوم القيامة، وقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري  قال: قال رسول الله : يُدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير؟ فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فذلك قوله جل ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، والوسط: العدل1، قال القرطبي عند تفسير هذه الآية: “قال علماؤنا: أنبأنا ربنا – تبارك وتعالى – في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتوليه خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولاً مكاناً وإن كنا آخراً زماناً؛ كما قال عليه السلام: نحن الآخرون الأولون2، وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلاً”3، وقال ابن القيم – رحمه الله -: “أخبر أنه كما جعلهم أمة وسطاً خياراً؛ اختار لهم أوسط جهات الاستقبال وخيرها، كما اختار لهم خير الأنبياء، وشرع لهم خير الأديان، وأنزل عليهم خير الكتب، وجعلهم شهداء على الناس كلهم لكمال فضلهم، وعلمهم، وعدالتهم، وظهرت حكمته في أن اختار لهم أفضل قبلة وأشرفها لتتكامل جهات الفضل في حقهم بالقبلة، والرسول، والكتاب، والشريعة”4.

وما كانت هذه الأمة أفضل الأمم إلا لأن الله خصها وفضلها بمزايا عن غيرها من الأمم؛ فنبيها أفضل نبي، وكتابها ناسخ لجميع الكتب السابقة، ومهيمن عليها، وهي الأمة العدل الوسط، وهي أول الأمم دخولاً الجنة، وأكثر أهل الجنة دخولاً أهلها؛ عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي  يقول في قوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس [آل عمران:110] قال: إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله5، قال ابن القيم: “فظهر أثر كرامتها على الله – سبحانه – في علومهم، وعقولهم، وأحلامهم، وفطرهم، وهم الذين عرضت عليهم علوم الأمم قبلهم، وعقولهم، وأعمالهم، ودرجاتهم، فازدادوا بذلك علماً، وحلماً، وعقولاً، إلى ما أفاض الله  عليهم من علمه، وحلمه”6.

فمن كان من هذه الأمة فهو من خير الأمم عند الله، ولكن يجب أن يكون متصفاً بصفات وأخلاق هذه الأمة اتصافاً حقيقاً، وذلك بأن يكون مؤمناً بخاتم النبي محمد ، راضياً به، متبعاً له في جميع أقواله، وأفعاله، وأحواله، مستقيماً على شرعه، عاملاً بجميع الصفات الفاضلة التي نالت به الأمة المحمدية هذه المنزلة؛ قال ابن رجب: “فما يحسن بمن كان من خير الأمم، وانتسب إلى متابعة خير الخلق، وخصوصاً من كان يسكن خير منازل المسلمين في آخر الزمان إلا أن يكون متصفاً بصفات الخير، مجتنباً لصفات الشر، وقبيح به أن يرضى لنفسه أن يكون من شر الناس مع انتسابه إلى خير الأمم، ومتابعة خير الرسل قال الله – تعالى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7]؛ فخير الناس من آمن وعمل صالحاً”7. وخير هذه الأمة القرن الأول؛ ثم الذين يلونهم؛ فعن عبد الله  عن النبي قال: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم…8؛ لأن القرن الأول عاش فيه خير من وطئ الثرى، محمد بن عبد الله المبعوث في أم القرى، والمرسل إلى جميع الورى، في ذلك القرن عاش الصديق أبو بكر، وعمر الفاروق، وعثمان الحيي، وعلي الشجاع القوي، وليس في أي أمة من الأمم أمثال هؤلاء الرجال.

فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ علينا هذه النعمة، وأعطانا ببركة نبينا  هذه الفضائل الجمة، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليماً.


1 رواه البخاري (4217).

2 رواه مسلم (855) من حديث أبي هريرة.

3 الجامع لأحكام القرآن (2/148).

4 مفتاح دار السعادة (2/31).

5 رواه الترمذي (3001) وقال: “حديث حسن”، وحسنه الألباني.

6 زاد المعاد (4/379).

7 لطائف المعارف، صـ (98).

8 رواه البخاري (2509) ومسلم (2533).