حب الرسول من الإيمان
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام المتقين، أما بعد:
فإن محبة الرسول ﷺ من أوثق عرى الإيمان، ومن أعظم درجات الدين، وهي دالة على صدق إيمان الإنسان.
ولما كانت هذه المحبة أهم الحقوق الواجبة للنبي ﷺ على أمته؛ جعلها الله فوق محبة الإنسان لنفسه، وأهله، وماله، والناس أجمعين كما قال الله تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] فهذه الآية دليل واضح على وجوب تقديم حب النبي ﷺ وحقه على كل حب وحق، وليت شعري أين نحن من هذه الآيـة!!
قال القاضي عياض: “كفى بهذه الآيـة حضاً وتنبيهاً، ودلالة وحجة على لزوم محبته، ووجوب فرضها، واستحقاقه لها ﷺ ، إذ قرع – تعالى – من كان ماله، وأهله، وولده؛ أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله”1.
إن هذه الآية لم تجعل الواجب على الناس حب النبي ﷺ فقط! بل ذهبت إلى ما هو أعلى من ذلك ألا وهو أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من الأموال، والأولاد، والإخوان، والأزواج!! ويتطلب ذلك أن يقتدي الإنسان بالرسول ﷺ في جميع شؤون حياته، وهو متابعته، وعدم مخالفـة سنته كما قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
ومما يدل على أن محبة الرسول ﷺ من الإيمان قوله ﷺ: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما2.
ومما يدل على وجوب حب النبي ﷺ وأن ذلك من الإيمان ما جاء في حديث عمر بن الخطاب أنه قال للنبي ﷺ : يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي ﷺ: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال عمر: فإنه الآن – والله – لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي ﷺ: الآن يا عمر3.
ولا يحصل الإيمان الذي تبرأ به الذمة، ويستحق الإنسان دخول الجنة بلا عذاب؛ حتى يكون الرسول ﷺ أحب إليه من أهله، وولده، والناس أجمعين، بل حتى يكون أحب إليه من نفسه كما جاء في حديث أنس بن مالك قال: قال النبي ﷺ: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين4 ومعنى ذلك أن يقدم حق الرسول ﷺ الواجب عليه القيام به على حقوق من ذُكر، فإذا تعارضت طاعة الوالد مع طاعة الرسول ﷺ الواجبة فهنا المحك، وهنا يظهر الامتحان ليعلم الله الصادق في الدعوى من الكاذب، فإذا قدم الإنسان طاعة الوالدين على طاعة الرسول ﷺ دل على ضعف الإيمان أو عدمه، وكذا تعرف الحقائق إذا تعارضت شهوة النفس والكسل عن الطاعة مع ما أمر به الرسول ﷺ، فإن قامت النفس بطاعة رسول الله ﷺ فهي تحبه حقاً، وإن اتبعت هواها، وتركت الطاعة أو الواجب فدعوى حب الرسول ﷺ كاذبة، ولهذا يقول الله – تعالى -: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].
والحقيقة أن المقام صعب إلا لمن يسره الله عليه.. ولهذا جعل الرسول ﷺ طاعته وحبه من أوثق عرى الإيمان وقال – كما تقدم -: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، وتقديم طاعة الرسول ﷺ على طاعة غيره، وحبه أكثر من حب غيره؛ يتمثل في اتباع سنته، وتطبيقها، ولهذا قال الله : إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النــور:51].
وقال أنس بن مالك : “جاء رجل إلى الرسول ﷺ فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: وما أعددت للساعة قال: حب الله ورسوله، قال: فإنك مع من أحببت قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي ﷺ : فإنك مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب الله، ورسوله، وأبا بكر، وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم”5.
وأنس يدري ما يقول، ويعي ما يتكلم به.. فليست القضية حب باللسان، ودعوى فارغة، ولكن القضية حب وانقياد، وطاعة وحفاظ على سنته.. وقد نفذ الصحابة ذلك الأمر يقول عمرو بن العاص : “وما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله ﷺ، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه”6.
وقد سئل علي بن أبي طالب : كيف كان حبكم لرسول الله ﷺ ؟ قال: “كان والله أحب إلينا من أموالنا، وأولادنا، وآبائنا، وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ”7.
وكلام الصحابة الكرام في هذا كثير.. وكان ذلك الحب منهم عملاً ثابتاً عل أرض الواقع.
اليوم.. يوجد من يدعي أنه يحب الله ورسوله ﷺ، وتراه مضيعاً للواجبات، منتهكاً للمحرمات.. يدعي المحبة وهو قاطع للصلاة، يدعي حب الرسول ﷺ وهو يعصيه في ترك الصلاة، أو التهاون بها، ولا يدفع زكاة ماله، ويترك سنته، أو يدعو الأموات عند القبور، أو يسيء الأخلاق، وهذا من التناقض العجيب الذي يجب أن يبتعد عنه المسلم.
نسأل الله أن يجعل رسوله ﷺ أحب إلينا من كل شيء، وأن يوفقنا لطاعته، والحمد لله رب العالمين،،،