الحِسْبَة
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
عباد الله:
لابد أن نعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون؛ قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (سورة الذاريات:56)، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (سورة الأنبياء:25)، وقال – جل وعلا -: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (سورة النحل:36).
وقد أخبر عن جميع المرسلين أن كلا منهم كان يقول لقومه: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (سورة الأعراف:59). وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمر وناه1.
وتُعَد ولاية الحسبة في الدولة الإسلامية – عباد الله – هي الأداة التي من خلالها تحقق دورها المنشود لتأدية رسالتها إلى البشرية جميعاً قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (سورة البقرة:143)، وهي القناة المؤدية إلى امتثال الفرض المحتم عليها، وتحصيل الخيرية والقيمة المرجوة منها، والتي أخرجت لتكون في الطليعة بين الأمم؛ كما قال سبحانه: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (سورة آل عمران:110).
فالحسبة قد وردت بعدة تعاريف ومفاهيم من قبل العلماء المتقدمين والمتأخرين، الجامع بينها: “أمرٌ بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهيٌ عن المنكر إذا ظهر فعله، يقوم به والٍ مختص من قبل الدولة”.
وبهذا فالقائم بأمر الله لابد له من سلطة يأمر وينهى من خلالها، سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، سلطة تجمع وحداتها، وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله، سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر، وتحقيق هذا المنهج يقتضي دعوة إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج، وتقتضي سلطة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قائمة على التعاون بين أفراد الأمة والمسؤولين، ولا يتخلف أحد عن واجبه؛ لأن ذلك أشد نفعاً وتأثيراً، إذ أنه لا مكلف إلا ويجب عليه هذه الشعيرة إما بيده، أو لسانه، أو بقلبه، وعلى كل أحد دفع الضرر عن نفسه2.
أيها الناس: إن الحسبة هي ولاية دينية يقوم ولي الأمر (الحاكم) بمقتضاها بتعيين من يتولى مهمة الأمر بالمعروف إذا أظهر الناس تركه، والنهي عن المنكر إذا أظهر الناس فعله؛ صيانة للمجتمع من الانحراف، وحماية للدين من الضياع، وتحقيقاً لمصالح الناس الدينية والدنيوية وفقا لشرع الله تعالى.
ولقد أوجب الله تعالى على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حسب قدرته وعلمه قال الله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة آل عمران:104)، وقال رسول الله ﷺ : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ3.
إن نظام الحسبة في جوهره يقوم على حماية محارم الله تعالى أن تنتهك، وصيانة أعراض الناس، والمحافظة على المرافق العامة والأمن العام للمجتمع، إضافة إلى الإشراف العام على الأسواق، وأصحاب الحرف والصناعات، وإلزامهم بضوابط الشرع في أعمالهم، ومتابعة مدى التزامهم بمقاييس الجودة في إنتاجهم، وكل ذلك يتم بالتنسيق مع الجهات ذات الاختصاص من وزارات ومؤسسات وغيرها، ويهدف الإسلام بذلك إلى خلق مجتمع آمن مستقر تسوده المحبة، ويجتمع أفراده في التعاون على البر والتقوى، حتى يتمكن الجميع من القيام بواجب الخلافة في الأرض، وتحقيق الغاية الأساسية من خلق الإنسان وهي عبادة الله تعالى كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (سورة الذاريات:56). ولأن الناس محتاجون دائماً إلى نظام يسيرون على هديه، وسلطة تحرص على تحقيق هذا النظام في حياة الناس؛ لزم أن يكون هناك من يذكر الناس بذلك، ويتابع التزامهم به، ومن هنا جاءت أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة الإسلامية يعد وظيفة أساسية للرسول ﷺ ، ولجميع أفراد أمته من بعده؛ ذلك لما له من أهمية قصوى في الحفاظ على الكيان الاجتماعي للمسلمين، فهو الوسيلة الأولى لتحقيق خلافة الإنسان على الأرض، وإصلاحها للبشرية جمعاء، لذا فقد وضع له الإسلام أسساً تضمن فعاليته في المجتمع ومن تلك الأسس:
أن الله تعالى جعل ذلك واجباً دينياً على كل فرد من أفراد المجتمع بحسب موقعه وقدرته قال الله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة آل عمران:104)، وقال ﷺ : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ 4، وإضافة إلى كونه واجباً على الأفراد فقد جعله الله تعالى واجباً دينياً ومهمة أساسية للدولة المسلمة، تتوقف صلاحيتها للاستمرار في قيادة الأمة على القيام بهذا الواجب قال الله تعالى: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (سورة الحـج:41).
ولكي تتحد مسؤولية الدولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد وضع له نظاماً محدداً، وولاية خاصة هي ولاية الحسبة يقوم عليها أشخاص يختارون لها اختياراً دقيقاً وفق شروط واضحة، حتى يتم الإشراف عليهم من قبل الدولة.
ولكي تزداد فعالية هذا الواجب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فقد ربط الشرع بين مهمته ورعاية مصالح الناس، حيث جعل الغاية منه تحقيق ما يصلح للناس معاشهم ومعادهم بالحفاظ على المنافع وتنميتها، ومحاربة المضار وإخمادها لذا يقول الله تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (سورة البقرة:251).
ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأفراد، وحتى يمتثل الأفراد لهذا الواجب؛ فقد ربطه الله تعالى بالوعد والوعيد، فوعد من قام به بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة كما أوعد من تخلف عن القيام به بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في صفات المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة التوبة.:71) وقال الله تعالى في صفات المنافقين: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (سورة التوبة:67)، وقال رسول الله ﷺ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ5. ومن الأسس التي تقوم عليها مسألة الحسبة: أن الله تعالى جعل اهتمام المرء بنفسه وتزكيتها قبل أن يلتفت إلى الآخرين محوراً للإصلاح، حتى لا يكون الطعن في سلوكه سبيلاً وحجة للآخرين يتعذر بها عن عدم الانصياع للأمر أو النهي، لذا قال الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (سورة البقرة:44)، وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (سورة الصف:2-3).
نسأل الله أن يمن علينا بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يجعل عملنا ذلك خالصاً لوجهه الكريم, وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأستغفر الله العظيم إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد: فحتى لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدعاة للارتكان إلى الغير، والاعتذار بذلك؛ فقد وزع الشرع المسؤوليات على كل فئات المجتمع مراعياً في ذلك التدرج ليشمل الأفراد والأسرة والوالي الأعلى للدولة، قال رسول الله ﷺ : كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ6، وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرٌِ (سورة التوبة:71).
ولأن الأسرة هي الخلية الأولى لبناء المجتمع الصالح؛ فقد اهتم بها الإسلام اهتماماً كبيراً، لذا كان أول من أمر النبي ﷺ بإبلاغه الدعوة هم أقرب الناس إليه قال الله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (سورة الشعراء:214)، وقال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (سورة طـه:132).
وحتى لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعظياً دون أن تكون للقائم به سلطة أو نفوذ فقد خوَّل الإسلام للمحتسب بعض صلاحيات التنفيذ فيما يدخل في مكانته، وقدرته، إلا أنه ميزه عن القاضي بأنه لا ينتظر أن يرفع إليه الأمر ليفصل فيه، بل يقتحم الموضع الذي يظهر فيه المنكر، أو يهجر فيه المعروف، فيقوم بواجب الأمر والنهي تغييراً أو تعميراً؛ قال الله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (سورة الحديد:25) فبين الله تعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل معه الحديد الذي هو القوة ليحمي الكتاب ودعاته، ويعين على تطبيق أحكامه.
إن الشارع الحكيم وضع ضمانات وضوابط عديدة لمن يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تصونه عن الانحراف، وتحد من الآثار السالبة التي يمكن أن تقع من المحتسب، وأهم هذه الضوابط أن يقدم المحتسب أثناء دعوته الأهم على المهم، وهذا يعنى أن المحتسب عليه أن يدرك الأمور التي يريد الاحتساب فيها، ثم يرتبها بحسب أهميتها فيبدأ بأولاها بالاهتمام ثم الذي يليه، لذا لما بعث رسول الله ﷺ معاذاً إلى اليمن قال له: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ7 فينبغي على الداعية المحتسب أن يجعل هذا الحديث العظيم نصب عينيه؛ ليكون ذلك عوناً له على إنجاح دعوته واحتسابه، وليتبع الوسائل المشروعة لمعرفة المنكر المرتكب أو المعروف المتروك، فالمحتسب ملزم بقواعد الشرع في ذلك، فلا يجوز له أن يتجسس بحجة الوصول إلى المنكر، كما لا يجوز له الغش والخداع في سبيل ذلك، وإنما واجبه وعمله متعلق بالمنكرات الظاهرة فقط دون المستورة قال الله تعالى: وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا (سورة الحجرات:12). وقال ﷺ : إِنَّكَ إِنْ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ8. وفي الإنكار ينكر مبتدئاً بالدرجة الأخف، فيعرف صاحب المنكر بأن هذا الفعل منكر شرعاً، وأنه لا يجوز اقترافه، ثم ينهاه عنه بالوعظ والتخويف من الله تعالى، فإن أبى فيغلظ في القول، ثم بالتهديد والتخويف، فإن لم ينته – وكان الناهي محتسباً أو ذا سلطة – سعى إلى التغير باليد وذلك بناء على قول الرسول ﷺ : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ؛ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ 9، والمراد بتغيير اليد هنا إزالة المنكر فقط دون تجاوز ولا تعدٍّ على فاعله، فإن كان المنكر خمراً أزيلت، أو صنماً كسر، ونحو ذلك.
إن ميزان الحكم على الشيء بأنه معروف أو منكر إنما يكون بالشرع، فما ثبت في الشرع بأنه معروف أمر به المحتسب، وما ثبت شرعاً بأنه منكر نهى عنه، أما ما سوى ذلك فلا يتدخل فيه10.
اللهم أرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات؛ إنك سميع مجيب، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
1 كتاب الحسبة (لابن تيمية).
2 مجلة البيان العدد 41 ص95 محـرم 1411هـ.
3 رواه مسلم 70 (1/167).
4 رواه مسلم 70 (1/167).
5 رواه الترمذي 2095 (8/75) وأحمد 22238 (47/307) وحسنه الألباني في تحقيق سنن الترمذي برقم (2169).
6 رواه البخاري 2368 (8/489) ومسلم 3408 (9/352) واللفظ للبخاري.
7 رواه البخاري 1401 (5/356) ومسلم 27 (1/111).
8 رواه أبو داود 4244 (13/35) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2295).
9 سبق تخريجه.
10 كتاب الحسبة.