الحياة البرزخية

الحياة البرزخية

الخطبة الأولـى:

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وجعل للوصول إليه طرائق واضحة وسبلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها عالي الجنان نزلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أقوم الخلق ديناً وأهداهم سبلاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليماً.

أيها المسلمون:

أليس كل منكم يخشى الموت ولا يدري أيصبحه أم يمسيه! ألم يكن الموت يأخذ الناس بغتة وهم لا يشعرون، أما هجم على أناس وهم في دنياهم غافلون، أما بغت أناساً خرجوا من بيوتهم ولم يرجعوا، فمن منكم أعطى أماناً ألا يكون حاله كهؤلاء، وماذا بعد هذا الموت الذي لا تدرون متى يفجؤكم؟ لا شيء بعده سوى الجزاء على ما قدمتم إما خير فتسرون به، وإما شر فتساؤون به وتندمون، فإن الإنسان إذا مات انقطع عمله، ولم يبق إلا الجزاء.

وإذا كنتم تعترفون بذلك ولا تنكروه؛ أفليس من الجدير بكم أن تبادروا التوبة إلى ربكم، والرجوع إليه، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته1.

عباد الله:

الموت هو مرحلة انتقال من دار الدنيا الفانية إلى دار الآخرة الباقية، وإن مرحلة الانتقال تلك تسمى بحياة البرزخ، فما هي حياة البرزخ، وما الذي يعتري الإنسان فيها؟

إن البرزخ في كلام العرب هو الحاجز بين الشيئين قال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً (سورة الفرقان:53) أي حاجزاً، والبرزخ في الشريعة: الدار التي تعقب الموت إلى البعث، فكل من مات من مؤمن أو كافر دخل في البرزخ. وتتكون دار البرزخ من عذاب القبر ونعيمه، وعرض أرواح المؤمنين على الجنة، وأرواح الكافرين على النار قال ابن  القيم – رحمه الله -: “عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة قال تعالى: وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (سورة المؤمنون:100)”2.

كما يطلق أيضاً على هذه المرحلة التي يمر بها الإنسان القيامة الصغرى، فكل من مات فقد قامت قيامته، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رجال من الأعراب يأتون النبي  فيسألونه عن الساعة، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ والمراد انخرام قرنهم، ودخولهم في عالم الآخرة، فإن كل من مات فقد دخل في حكم الآخرة4. كما يطلق على هذه المرحلة أيضاً الموت وهو المتداول والشائع بين الناس، ووقت الموت من الأمور التي استأثر بعلمها الله  حيث قال: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ (سورة الأنعام:59)، وقال ​​​​​​​: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (سورة لقمان:34)5.

عباد الله:

إن الحياة البرزخية تبدأ بقبض الروح والعروج بها، والقبر وأحواله وأهواله المتضمنة لضمة القبر، وسؤال الملكين الذي يتحدد به مصير المرء، ويفسح له في قبره إن كان من الصالحين، ويضيق ويشتعل عليه إن كان من الطالحين، ويعرض عليه مقعده في الجنة، ومقعده في النار، فيستبشر الصالح، ويزداد الطالح غماً على غم، ويبقى المنعم منعماً، والمعذب معذباً إلى يوم يبعثون، وكل ذلك دلت عليه النصوص الشرعية التي منها حديث البراء بن عازب الطويل الجامع لأحوال الموتى عند قبض أرواحهم وفي قبورهم، فقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ  قال: “خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ  فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ  وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ -مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا- ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ؛ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ  حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ، قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ: فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى ملإٍٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ ​​​​​​​ : اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى، قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ، وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: لَهُ مَنْ أَنْتَ! فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي، قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ؛ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمْ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ، قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ : لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ (سورة الأعراف:40)، فَيَقُولُ اللَّهُ​: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (سورة الحـج:31)، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنْ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ! فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ6. وأخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ – وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ – أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ (لِمُحَمَّدٍ )؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعاً) قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ.. قَالَ: (وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ، وَلَا تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ7. ومنها: ما أخرجه أحمد عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – عَنْ النَّبِيِّ  قَالَ: إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا نَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ 8 نسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا، وأن ينجنا من عذاب القبر .. إنه سميع قريب مجيب غفور رحيم.

الخطبة الثانيـة:

الحمد لله الذي لم يزل قائماً بشؤون الخليقة على أحسن نظام، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، على الكمال والتمام، فهو الملك العظيم القدوس السلام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام أما بعد:

فإن الحياة البرزخية تختلف عن الحياة الدنيوية، وعن الحياة الأخروية؛ من وجوه كثيرة أهمها:

أن الروح تتعلق بالبدن تعلقاً خاصاً، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه عند قبضها فإنها لا تفارقه بالكلية بحيث لا يبقى لها التفات البتة، وإنما ترد إليه في بعض الأوقات كردها عند سؤال الملكين، وتسليم المسلم عليه عند زيارته له، وهذا الرد هو إعادة خاصة للروح لا توجب حياة البدن قبل البعث.

وهذه الحياة البرزخية تقتضي معرفة الميت لمن يزوره من الأحياء، وقد قال الإمام ابن القيم في كتاب الروح: “والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له، ويستبشر به”، وقد أفاض القرطبي في التذكرة وابن القيم في كتاب الروح في تفصيل مراحل هذه الحياة، والتعرف عليها عن كثب، وجمعا في ذلك جمعاً طيباً، ومع ذلك فإن حقيقة الأمر تبقى غائبة عن الكل لا يعلمها إلا الله تعالى، وعلى المسلم الإيمان والتسليم10.

أيها الناس:

اتقوا الله، واعلموا أن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم، وأنكم عند انتقالكم من الدنيا لا بد أن يمتحنكم ويسألكم ويجازيكم، فمن كان في الدنيا ثابتاً على الصراط المستقيم ثبته الله عند مماته، وفي قبره، وبشر بالفوز والنعيم، ومن كان في هذه أعمى معرضاً عن الله فلا بد أن يلاقي ما قدمت يداه. أما والله لو نشر لكم أهل القبور فحدثوكم بما وصلوا إليه من عظائم الأمور لقالوا: قد وجدنا ما وعدنا الله ورسوله حقاً، ولم نفقد من أعمالنا مثقال ذرة من خير أو شر، فأصبحنا مرتهنين صدقاً، أما طائعنا فقد اغتبط بعمله، ولقي الفوز والروح والريحان، وأما عاصينا فقد باء بالخيبة والحسرة والهوان، يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليتوبوا، ويودون أن لو مكنوا ليعملوا صالحاً وينيبوا، وأنتم إلى ما صاروا إليه صائرون، وبكأس الحمام الذي يدور على الخليقة شاربون، فتوبوا إلى ربكم ما دمتم في زمن الإمهال، وتقربوا إليه بما استطعتم من صالح الأعمال فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ۝ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ۝ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ۝ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ۝ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ۝ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ۝ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ۝ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ۝ سَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ۝ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ۝ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ۝ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ۝ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (سورة الواقعة:83-96)11.

اللهم يا أرحم الراحمين، ويا ذا الجلال والإكرام نسألك أن تجعلنا من المقربين، اللهم اجعلنا من المقربين، اللهم اجعلنا من المقربين، اللهم اجعل القبر روضة لنا من رياض الجنة، اللهم آنسنا في وحشتنا في قبورنا، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً، اللهم حرم وجوهنا على النار، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه واحشرنا في زمرته، واجعلنا من أهل رفقته، برحمتك يا أرحم الراحمين.


1 الضياء اللامع من الخطب الجوامع لـ (ابن عثيمين).

2 كتاب الروح ص73.

3 رواه البخاري برقم (6030).

4 تفسير ابن كثير

6 رواه الإمام أحمد في مسنده (17803) (ج 37 / ص 490) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3558), وقد أخرج البخاري ومسلم وأصحاب السنن فقرات من هذا الحديث. 

7 رواه البخاري برقم (1285) ومسلم برقم (5115).

8 رواه أحمد برقم (23148) (ج 49 / ص 304) وقال الألباني عنه في السلسلة الصحيحة برقم (1695) إنه صحيح بمجموع طرقه وشواهده.

9 الفواكه الشهية في الخطب المنبرية لـ(السعدي).

11 الفواكه الشهية في الخطب المنبرية لـ(السعدي)، بتصرف.