الفكر الإسلامي

الفكر الإسلامي

الفكر الإسلامي

الخطبة الأولى:

الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أفضل من بشر وأنذر وأمر وزجر, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً… أما بعد:

فيُعَد الوحي الإلهي من الكتاب والسنة أساس التشريع، ومصدر الفكر الإسلامي.

ومنذ نزول القرآن الكريم وختْم الرسالات الإلهية بالإسلام، تمت صياغة فكر المسلمين في أصوله وثوابته على هدي القرآن الكريم والسنة النبوية, وهذه الأصول والثوابت ظلت أهم مرتكزات فكر المسلمين في جميع العصور، على اختلاف الزمان والمكان, وتنوع البيئات والأعراف والثقافات في البلاد التي ساد فيها الإسلام منذ القرن الأول الهجري، وما تلاه من انتشار للإسلام في أقطار واسعة، كان لبعضها ثقافات مميزة.

وإذا كانت الأمة الإسلامية، قد بدأ بزوغها في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية، وبدت ظاهرة قوية في حجة الوداع، حين خاطب النبي صلوات الله وسلامه عليه عشرات الألوف من المسلمين, فإن هذه الأمة لم تعد قاصرة على العرب، أو سكان شبه الجزيرة العربية، التي توحدت لأول مرة في تاريخها تحت سلطان المسلمين.

لقد بدأت الأمة الإسلامية بالعرب، سكان شبه الجزيرة، ثم امتدت فيما بعد لتضم إليها شعوبًا أخرى في المشرق والمغرب، لا سيما في القرنين الثاني والثالث الهجريين, ومعلوم أن وحدة الأمة الإسلامية، ولزوم جماعة المسلمين، وعدم التفرق من أجلِّ المقاصد الإسلامية، وأسمى الغايات الدينية، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (103) سورة آل عمران. وقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: (إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ)1. قال النووي -رحمه الله-: "وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولا تفرقوا), فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام"2. وفي حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم- قال: ( ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنُّصْحُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ)3.

ولما كانت تلك الوحدة التي تعد من قواعد الإسلام تقتضي توحد الأمة في منهاج التفكير, فقد كان القرآن الكريم، هو الأساس الأولى في صياغة العقل المسلم على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي أيضاً، في شعوب تختلف أصولها العرقية، وبيئاتها، وأعرافها، وتراثها الحضاري والثقافي, وكان انتشار اللغة العربية، وسيادتها في كثير من البلاد التي فتحها المسلمون، من أهم العوامل التي ساعدت على توحد منهاج التفكير؛ إذ اللغة وعاء الفكر، ووسيلة التعبير عنه، وطريق انتقاله وذيوعه.

ولعل مما ينبغي بيانه أن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم فلسفة متكاملة، ولا نظرة شاملة للوجود, وإنما هي نظرات مبعثرة، وخطرات مفرَّقة، ولفتات مشتتة تعبر عن تجاربهم المحدودة في الحياة ثم جاء الإسلام فأبدع في كل شعبة من شعب الحياة، وأثَّر في كل ناحية من نواحيها فكان نوراً ورحمة، وهداية ورشداً.

عباد الله:

من المعلوم أن معظم العرب قبل الإسلام كانوا أهل وثنية، وكان لكل قبيلة صنمها بل قد يتخذ بعض الأفراد أصناماً خاصة يقدسونها، ويدينون لها بالطاعة والولاء، ويسألونها النجاح والفلاح, وهذا لا يعني أنهم ما كانوا يعرفون عن الله شيئاً، ولكنها المعرفة الغامضة غير العميقة، التي لا تؤثر في السلوك والعمل, ومن الجاهليين من شك في جدوى تلك الأصنام فطفقوا يبحثون عن دين تطمئن إليه النفس، ويرتاح إليه الضمير، ويركن إليه الفؤاد، كما فعل زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه، ونهى عن فعل المنكرات، وقتل الموءودة ودان بالتوحيد.

ولم تك قضية التوحيد قضية سهلة ميسـورة كما يُظن، بل جاهد في سبيلها الرسول -صلى الله عليه وسلم – جهاداً كبيراً، ومكث يدعو إليها سنين عددًا، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً, ولم تكن المسألة خاصة بالعرب عُباد الأصنام والأوثان الذين تساءلوا منكرين مندهشين حائرين: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (5) سورة ص. بل تجاوزتهم إلى أهل الكتاب الذين حرَّفوا الكلم عن مواضعه، وابتدعوا عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، فاليهود يزعمون؛ أنَّ عُزيراً ابن الله, والنصارى يزعمون أن المسيح ابن الله, ثمَّ يخترعون نظرية الثالوث, فأتى القرآن بالقول الفصل، والحكم الحاسم   {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (73) سورة المائدة. ثم عادوا جميعًا اليهود والنصارى ليدَّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه, قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} (18) سورة المائدة. جاء الإسلام ناقدًا تلك الدعاوى، مفندًا تلك الأباطيل، نافيًا تلك الأوهام، ولا عجب إذ يقول تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} (48) سورة المائدة. فهذه الهيمنة هي التي تعطي الإسلام حق التقويم والتعديل والتصحيح, تصحيح الأوضاع الجائرة في كل جانب من جوانب الحياة.

فالتوحيد أعظم عقيدة جاء بها الإسلام، وهو الأساس الذي تبني عليه الحياة الإنسانية الفاضلة الرشيدة، ولهذا أنكر الله -سبحانه وتعالى- الشرك وعدَّه ظلماً عظيماً، وجرماً كبيراً لا يغفر.

وقد جاء على المسلمين زمان انحرفوا فيه بعقيدة التوحيد عن الجادة، فاخترعوا نظرية "الاتحاد" التي يمثلها "أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج"، كما ابتدعوا نظرية "وحدة الوجود" التي يمثلها "محي الدين بن عربي الحاتمي". فهبَّ الإمام "أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني" وغيره من علماء المسلمين الأثبات يذودون عن دين الله، ويردُّون ما جاء به القوم في منطق قوي، وفكر مستقيم.

عظَّم الإسلام خطر الشرك بالله، لأن التوحيد واستقامة العقيدة هي التي تدفع بالناس في الطريق السوي، والصراط المنيع المستقيم, وليس من اللازم أن يعبد الإنسان صنمًا أو وثنًا أو بقرة ليكون مشركًا بالله، فقد يعبد الإنسان الهَوَى والغَرَائِز والنوازع والشهوات قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} (43) سورة الفرقان. والإنسان الذي يُلغِي عقله، ويضرب عن التفكير، ولا يرى ولا يسمع ولا يفكر إلا بأعين الآخرين وآذانهم وعقولهم, الإنسان الذي يسمع ويطيع من غير مناقشة ولا أخذ ولا رد ولا إعمال فكر, مثل هذا الإنسان عابدٌ لغيره؛ لأن العبادة تعني الطاعة والتسليم وهذا ما فات على عدي بن حاتم, فصوَّبه الرسول وبيَّن له أن طاعة البشر في انتهاك حرمات الله من العبادة؛ {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (121) سورة الأنعام.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير, واجعل الموت راحة لنا من كل شر, واغفر لنا وارحمنا إنك غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي له في كل لطيف من قدرته معجز يتفكر فيه، وخفي من صنعه يتنبه له ويدل عليه، ونعم تقتضي مواصلة حمده، ومنن تحثّ على متابعة شكره، والصلاة والسلام على أشرف رسله وخيرته من خلقه, على صحابته والتابعين لهم بإحسان ما تعبد لله متعبدٌ في سره وجهره… أما بعد:

فقد أصبح الإسلام موضوع الساعة في العالم، الكل يكتب ويخطب ويناقش، وسيطرت قوة الحقيقة الإسلامية على الساحة، تحقيقاً لوعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذا الدين بالظهور إلى قيام الساعة، سواء بالحجة والبيان، كما في العهد المكي، أو بهما إضافة إلى القوة والسلطان كما في العهد المدني وما تلاه، ثم في غالب التاريخ الإسلامي، ففي حال عدم ظهوره بالقوة والسلطان فإن قوة الحجة والبرهان معلومان بالضرورة من بديهيات الإيمان.

 ولا غرابة أن نجد كاتباً كافراً يبدو نصرانياً يقول: "الإسلام يفرض على المجتمع الحديث احترام حقوق الله وحقوق الإنسان، التي نص عليها القرآن لذلك تسعى الاشتراكية أن تكون إسلامية، وتسعى الديموقراطية أن تتلون بالدين", ثم صدرت مقولات كثيرة، وظهرت سلوكيات تبدو محابية للإسلام ممن عرفوا بعدائهم له جهراً، ثم عادوا يتملقونه ويتظاهرون بعدم الاختلاف معه, وربما جعل أحدهم نفسه فقيهاً ومفتياً في مهمات أمور الإسلام ركوباً للتيار.

وهذا واحد من هؤلاء الذي شُهر بالدفاع عن القدس، وقال: إنه تزوج القدس كما تزوج غيره قضية فلسطين، وزعم أن الله عهد إليه بتحرير القدس, يقول: (كلنا مسلمون، منا من أسلم على طريق القرآن ومنا من أسلم عن طريق الحكمة.. الرب أبونا" وعلى ما في الكلمة من خداع لفظي ولكنها من أمثلة التزلف للإسلام من عدو محارب له.

إن هذا التوجه والاندفاع للحديث عن الإسلام ودراسته مع إبقاء الأهداف المريبة، يستوجب إظهار قوة ونفوذ الفكر الإسلامي، وإحسان التعامل مع موجة العداء الجديدة، والهيمنة عليها, ولأن مفاهيم الإسلام جاءت مهيمنة على غيرها، فأساس هذه المفاهيم ومنبعها أنزله الله مهيمناً على ما عداه, والمواجهة مع أعداء الله فكرية أو عسكرية لا تعرف الهدوء ومن توقع أن الهجمة انتهت أو ضعفت فهو غافل غائب عن ميدان الصراع.

ومن المؤسف أن المواجهة الفكرية -المطلوب من المسلمين القيام بها- لا تتناسب في هذه الظروف مع شراسة الهجمة واتساع دائرتها.

ويمكن القول أن عدداً قليلاً ونادراً من الإنتاج الفكري الإسلامي اليوم يستحق الاهتمام والدراسة، أما الغالب فجهود يغلب عليها أسلوب التغزل بمبادئ الإسلام ومثله أو الدفاع والاعتذار، وتملق الناس ومهادنة أحوالهم السائدة، وليس بما يمليه الإسلام من علوٍ له على ما سواه وتنفيذ لحكمه مهما بدا في نظر البشر غريباً.

 هذه الكتب أو الأعمال الفكرية -أيا كان نوعها التي تسودها السطحية وغموض الهدف- تنتشر بواسطة الشهرة والصداقة والمعرفة الشخصية في مجتمع اعتاد بعضه على الإملائية الفكرية، التي تملي على المسلمين القراءة للكاتب المردد لا للكاتب الرائد، تملي وتوجه إلى القراءة للفكر المهادن للجمود الفكري وليس للفكر الواعي الموقظ.

ونتيجة لهذا النوع من الفكر تخرج للساحة أعدادٌ هائلة من المسلمين تتناسب في كل أمورها مع تلك الثقافة الواهنة الخجلى التي تغذت بها وتعاني مما تعانيه تلك الكتب.

 ورحم الله  القائل: "إن قوة: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (139) سورة آل عمران. كانت روحاً قوية سرت في قلوب الصف الأول فأوجدت ما تبع من قوى".

عباد الله:

إن القرآن هو مصدر التثقيف والبناء الفكري والتربوي للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وعائشة -رضي الله عنه-تقول حين سئلت عن خلقه – صلى الله عليه وسلم-"كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"4.

فأي جيل يمكن أن يخرجه ركام الوهن والجهل والتقليد والتلقي هذه الأيام، لكم نسخط على التقليد الذي أوهن العقل والروح عند المسلمين.

ثم نمارس نفس العيب إنما بأسلوب آخر ما أحرانا أن نخترق هذا الركام ونستصفي منه ما يعنينا لا ما يثقلنا, فإن الغلبة والاستيلاء المعنوي يقوم بنيانه في الحقيقة على الاجتهاد والتحقيق العلمي.

فكل أمة تسبق غيرها إليه تتولى قيادة العالم وزعامة الأمم، وتستولي أفكارها هي على العقول, أما الأمة التي تتخلف في هذا الطريق فلا تجد مناصاً من اتباع الغير وتقليده إذ لا يبقى في أفكارها ومعتقداتها من القوة والأصالة ما يكسبها السيطرة على الأذهان فيجرفها تيار الأفكار القوية التي تقوم بها الأمة الباحثة المجتهدة, أما الأفكار المهزومة فهي التي تنجب أجيال الهزيمة فكراً وفعلاً.

والنقد وتذكير النفس بعيوبها قاعدة قرآنية ثابتة: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (165) سورة آل عمران. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين, سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين5.


 


1 رواه مسلم -3236- (9/109).

2 شرح النووي على مسلم (6/144).

3 رواه ابن ماجه -226- (1/267) والطبراني -5450- (12/28) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6766).

4 رواه أحمد –24139– (51/296) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4811).

5 المرجع:  http://www.islamselect.com بتصرف.. وكتاب: الأمة الوسط والمنهاج النبوي في الدعوة إلى الله لـ(عبد الله بن عبد المحسن التركي). بتصرف.