مفهوم الصوم

مفهوم الصوم

مفهوم الصوم

 

الحمد لله الذي شرع الشرائع وأحكم الأحكام، وخص شهر رمضان من بين الشهور بفريضة الصيام، وبيّن الحلال من الحرام، واحتجب في هذه الدار عن سائر مخلوقاته، المتفرد باختراع الكون وإيجاده، المتصرف في خلقه بمحض مشيئته ووفق مراده، والمحيط علمه بسائر برياته، نبّه من شاء من العباد من غفلته ورقاده، فأيقن أنه مسافر إلى الله فكان همّه إعداد زاده، وحكم على من شاء بطرده وإبعاده، فصرف همته للعاجلة واشتغل عن حشره ومعاده، وكان همه في نيل شهواته، الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فلا يخفى عليه جليل الكون ولا حقير ذراته، المتفضل الذي اختص بالتفضيل والتشريف بعض مخلوقاته، وأودع فيهما من عجائب حكمه وبدائع مصنوعاته، ما شهدت العقول السليمة بأنه من أكبر آياته. خلق فقدر، وملك فدبّر، وشرع فيسر، وربك أعلم حيث يجعل رسالاته. أَهَّل من شاء لمن شاء من الخيرات، ويسر له أسباب الكرامات وهو أعلم بمواضع اختياره وكراماته. فسبحان من قسم الفضائل بين خلقه فهذا فاضل وهذا مفضول، وهذا مطرود وهذا مقبول، وهذا قد رمي بالإبعاد والخذلان، وهذا قد قرب مولاه بغاية القرب والإمكان، وأقام الحجة بإرسال رسله، وإنزال آياته.

أحمده وهو المحمود على جميع أقضيته وتدبيراته، وأشكره على جزيل إحسانه وعظيم امتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وكمالاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أشرق الكون بنور رسالاته بعد ظلماته، وانتظم به شمل الإسلام بعد شتاته. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين له على دينه ومحبته وموالاته، وسلم تسليماً 1.

أما بعد:

أيها المؤمنون: إن من المفاهيم المغلوطة، والأفكار المعكوسة، ما يفهمه كثير من الناس اليوم من أن شهر رمضان شهر للتمتع بالمأكولات والملذات، أو أنه شهر لحبس النفس ومنعها عن الطعام والشراب فقط، أو أنه شهر للدعة والكسل والنوم في النهار والسهر في الليل على القيل والقال، ومشاهدات القنوات الفضائية، وفعل ما يغضب الرحمن، أو أنه شهر لجمع الدراهم والدنانير، وهذا ما نلمسه من كثرة الباعة والعمال خلال شهر رمضان، فنراهم قد امتلئت بهم الأسواق والشوارع والأرصفة، دون عناية بالغة بقراءة القرآن وطاعة الله.

أو لا يعلم أولئك أنّ المقصود الحقيقي للصيام هو التعبد الله عز وجل بمنع وكف النفس عن شهوات الطعام والشراب، وسائر المفطرات، يقول ابن القيم – عليه رحمة الله – وهو يتحدث عن المقصود الذي شرع من أجله الصيام : ( لما كان المقصودُ مِن الصيام حبسَ النفسِ عن الشهواتِ، وفِطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتها الشهوانية، لتستعِدَّ لطلب ما فيه غايةُ سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتُها الأبدية، ويكسِر الجوع والظمأ مِن حِدَّتِها وسَوْرتِها، ويُذكِّرها بحال الأكبادِ الجائعةِ من المساكين، وتضيق مجارى الشيطانِ من العبد بتضييق مجارى الطعام والشراب، وتُحبس قُوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسكِّنُ كُلَّ عضوٍ منها وكُلَّ قوةٍ عن جماحه، وتُلجَمُ بلجامه، فهو لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين مِن بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعلُ شيئاً، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجل معبوده، فهو تركُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثاراً لمحبة اللَّه ومرضاته، وهو سِرٌّ بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليهِ سواه، والعبادُ قد يَطَّلِعُونَ منه على تركِ المفطرات الظاهرة، وأما كونُه تركَ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بَشرٌ، وذلك حقيقةُ الصوم 2.

أيها الصائمون: اعلموا أن للصيام آداباً كثيرة لا يتم إلا بها، ولا يكمل إلا بالقيام بها، وهي على قسمين: آداب واجبة؛ لابد للصائم من مراعاتها، والمحافظة عليها، وآداب مستحبة ينبغي أن يراعيها ويحافظ عليها. فمن الآداب الواجبة التي يجب على الصائم مراعاتها أن يقوم الصائم بما أوجب الله عليه من العبادات القولية والفعلية، ومن أهمها الصلاة المفروضة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين.. ومن الآداب الواجبة أن يجتنب الصائم جميع ما حرم الله ورسوله من الأقوال والأفعال، فيجتنب الكذب، وأعظمه وأشنعه: الكذب على الله ورسوله، ويجتنب الغيبة، والنميمة، والغش في جميع المعاملات من بيع وإجارة، وصناعة ورهن وغيرها، وفي جميع المناصحات والمشاورات، ويجتنب المعازف، وهي آلات اللهو بجميع أنواعها؛ كالعود والربابة، والقانون والكمنجة، والبيانو وغيرها، فإن هذه حرام. فاحذروا أيها المسلمون نواقض الصوم ونواقصه، وصونوه عن قول الزور والعمل به، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه 3. قال جابر رضي الله عنه : (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء).

أيها المسلمون: ومن الآداب المستحبة في الصيام: السحور، فقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ” تسحروا فإن في السحور بركة 4. ومن آداب الصيام المستحبة: تعجيل الفطر وتأخير السحور، والدعاء عند الفطر بما يحب الصائم. والإكثار من قراءة القرآن والذكر، والدعاء والصلاة والصدقة، وأن يستحضر الصائم قدر نعمة الله عليه بالصيام حيث وفقه له، ويسره عليه حتى أتم يومه وأكمل شهره. إخواني تأدبوا بآداب الصيام، وتخلوا عن أسباب الغضب والانتقام، وتحلوا بأوصاف السلف الكرام، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها من الطاعة واجتناب الآثام 5.

أيها الصائمون: إن الناس في صيامهم الشرعي ينقسمون إلى قسمين: القسم لأول: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله – تعالى -، يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله، وعامل الله، قال -تعالى-: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} 6، ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح.. فهذا الصائم يعطي في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، قال الله – تعالى-: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } 7. قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إنّ في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم 8 . وفي رواية: ” من دخل منه شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً 9. وقال أنس رضي الله عنه : (إن لله مائدة لم تر مثلها عين، ولم تسمع أذن، ولا خطر على قلب بشر لا يقعد عليها إلا الصائمون). وعن بعض السلف قال: (بلغنا أنه يوضع للصوَّام مائدة يأكلون عليها والناس في الحساب، فيقولون: يا رب نحن نحاسب وهم يأكلون، فقال: إنهم طالما صاموا وأفطرتم، وقاموا ونمتم).

من يرد ملك الجنانِ فليــدع عنه التواني

وليقم في ظلمة الليـ ـل إلى نور القـرآن

وليصل صوماً بصوم إن هذا العيــش فاني

إنما العيش جوار اللَّـ ـه في دار الأمــان

القسم الثاني : من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويُريد الآخرة فيترك زينة الحياة الدنيا، فهذا عبد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته.

أهل الخصوص من الصَّوَّام صومُهُمُ صونُ اللسان عن البُهتان والكذب

والعارفون وأهلُ الأنس صومُهُـمُ صونُ القلوب عن الأغيار والحُجُب

من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غداً في الجنة، ومن صام عمّا سوى الله فعيده يوم لقائه، من كان يرجو لقاء الله؛ فإن آجل الله لآت.

وقد صمت عن لذات دهريَ كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

يا معشر التائبين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولنَّ عليكم الأمل باستبطاء الأجل؛ فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.

إن يوماً جامعاً شملي بهم ذاك عيدي ليس لي عيد سواه 10.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني إياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، واستغفروا الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على خير داع إلى رضوانه، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

أيها المسلم: يجب أن تصوم جوارحك عن جميع المفطرات المعنوية، كما صمت عن جميع المفطرات الحسية، فيجب عليك كما صامت بطنك عن الطعام والشراب والشهوة أن تصوم بطنك عن الحرام، فلا تدخل فيها أكلاً محرماً قد جمعته أو جمعت ثمنه من الربا أو الغش أو السرقة أو النصب والاحتيال على أموال الناس، بل يجب عليك كما صمت على مباح أن تفطر على مباح، فإن من الناس من يصوم على مباح ثم يفطر على الحرام، بل إنني – أحذرك أيها الصائم – أن تكون من أولئك الذين أول ما يبتدرون به فطرهم شرب الدخان، والسجائر وغيرها، ولتسمع إلى هذه القصة العجيبة التي حصلت لأفضل رجل بعد الأنبياء مع خادمه، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه تغذى يوماً من الأيام، ثم سأل خادمه من أين هذا الطعام؟ قال: من كهانة كنت أتكهن بها في الجاهلية، فأدخل أبو بكر يده وانتغر فأخرج ما في بطنه من الطعام! 11.

ويجب عليك أن يصوم قلبك عما حرم الله، وذلك بتفريغه من المواد الفاسدة من شريكة مهلكة، ومن وسَاوِسَ سِيئة، ومن نوايا خبيثة، ومن خطرات فاسدة، وأن يصوم قلبك عن أن يصيبه داء الكبر والعجب، والغل والحقد والحسد، وإساءة الظن، وغير ذلك من أمراض القلوب.

كما يجب عليك -أيها الصائم- أن يصوم اللسان عن الخلال الرديئة من الكذب والغيبة والنميمة، والبذاءة والسب والفحش والزور، والسخرية والاستهزاء وغيرها.

احذر لسانك أيها الإنسـان لا يلدغنـك إنـه ثعبـان

كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تخاف لقاءه الشجعان

والله إن المـوت زلة لفظـة فيها الهلاك وكلها خسران.

أيها الصائم: كذلك يجب أن تصوم عيناك عن النظر إلى النساء والمردان، وغير ذلك، قال الله -تعالى-: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } 12. وكذا يجب أن تصوم أذناك عن سماع الخنا والغناء، والفحش والبذاء، والوشاة والحاقدين.

لا تسمع إلا لقـول صادق يغنيك عن خطل من الأقوال

فالأذن نافذة العلوم وخيرها أذن وعت ذكراً تلاه التـالي.

فحافظ على صومك – أيها المسلم – من فعل ما يبطله أو ينقصه، واستفد من مدرسة الصيام في تربية نفسك، وكن شجاعاً على فعل ما يرضي الملك العلام، خائفاً من فعل ما يغضب الديان، والله حسبنا وعليه اتكالنا، وإليه منقلبنا ومآلنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً فغفر له ما تقدم من ذنبه. اللهم أعد علينا رمضان أعواماً عديدة، وأزمنة مديدة، ونحن في زيادة من الأمن والإيمان. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



1 – عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان صـ (55- 56). مكتبة الإرشاد صنعاء.

2 – زاد المعاد (2/ 28) ط: مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية. الطبعة السابعة (1405هـ).

3 – رواه البخاري.

4 – رواه البخاري ومسلم

5 – مجالس شهر رمضان لابن عثيمين صـ ( 45- 52). باختصار.

6 الكهف(30).

7 الحاقة(24).

8 – رواه البخاري ومسلم.

9 – رواه النسائي وابن خزيمة.

10 – لطائف المعارف صـ (176- 179) بتصرف.

11 – رواه مسلم.

12 النــور (30).