العقلانية

العقلانية

العقلانية

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أما بعد:

أيها المسلمون:

إن الله تعالى خلق العقل نعمة للإنسان ليصل به إلى الله، والعقل تابع لشرع الله تبارك وتعالى، ولا يتعارض العقل السليم مع شريعة الله.

“فلأجل هذا -عباد الله- أجمعت الرسل قاطبة على حفظ الضرورات الخمس، ومنها العقل.

وأما الذين كبلوا عقولهم، وعطلوها عن موارد النهل الصافي فهم الذين قال الله عنهم: {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}الأنفال: 22،23.

ولأجل ذلك كان جواب أمثال هؤلاء يوم القيامة: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ * فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ}الملك: 10، 11″1.

فالعقل نعمة، لكن هناك من يقدم عقله وهواه على الدين، ويقول بلسان الحال أو المقال أن ما وافق العقل أخذنا به وإلا فلا.

“فمن المساوئ -عباد الله- التي ابتلى بها بعض المنتسبين إلى الإسلام تقديس العقل، واعتماده مصدراً أعلى من كلام خالق العقل، وقد لبس عليهم إبليس، فرأوا أنهم على صواب، وقويت في نفوسهم شبه الملاحدة أعداء الدين، فارتكبوا هذا الجرم الشنيع، ورأوا أنه إذا تعارض النقل والعقل في شيء فإن العقل هو المقدم، وذلك عند الجمهية والمعتزلة وجمهور الأشاعرة المتأخرين، ظانين أنه يوجد بالفعل تعارض بين العقل السليم والنص الصحيح -حسب زعمهم-“2.

عباد الله:

إن الاتجاهات العقلانية الحديثة اليوم تمثل في الحقيقة فرقاً منحرفة، بالمصطلح الشرعي الإسلامي، مثلها كمثل فرق المعتزلة والجهمية والخوارج والمرجئة والرافضة والباطنية، وغيرها من الفرق، لأنهم يقدمون عقولهم على شرع الله، فهم أخطر على الإسلام والمسلمين اليوم من الفرق العقلانية القديمة؛ لأنها تتكلم وتعمل في هذا العصر من منطلق الأقوى، وبمنطلق المتفوق؛ لأنها تستند في منطلقاتها على الغرب، والغزو الفكري الغربي. ولأن الأفكار والمفاهيم العقلانية قد تمكنت وتغلغلت في عقول كثير من مثقفي المسلمين. والاتجاهات العقلانية الحديثة زيادة على أنها تمثل الانحراف والخطر على الإسلام والمسلمين فهي أيضاً تمثل خطراً أكبر وأعمق في كونها تخدم أهداف الأعداء3.

“إن العقلانيين يرفعون شعارات الاستنارة، ويتهمون المتمسكين بالدين بالرجعية والظلامية، والتمسك بالدين خرافي. والعقلانيون في الحقيقة متمردون على الغيب والوحي، والعقلانية تقدم العقل على النص، وتتحلل من القيم الأخلاقية والقواعد الشرعية. وفي هذا المذهب خطر عظيم يقول ابن القيم -رحمه الله-: “وكل من له مُسكةٌ من عقلٍ يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتاب الله وحيه الذي هُديَ به رسله، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل”.

نسأل الله -عز وجل- أن يحمينا من الأهواء، وأن يرزقنا إتباع الشرع المطهر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله العليم الحكيم، الذي شرع لعباده شرعاً يوافق العقل السليم، ويروي ظمأ الغليل، ويشفي داء العليل، صلى الله وسلم على الإمام المعصوم والنبي الراحم والمرحوم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..

عباد الله:

إن الله تعالى جعل شرعه موافقاً للعقول السليمة والأفهام المستقيمة، وصرف ذلك الفهم الواعي عن قلوب أهل الهوى والبدع، فراحوا ينخرون في الدين من حيث شعروا أو لم يشعروا، ولم يعلم الكثير منهم أن أوامر ديننا الحنيف مبنية على التسليم لما لم تعلم حكمته وغايته، ولو كان الدين بالرأي ومسايرة العقل السقيم لاندرست معالم الشريعة وضاعت في مهاوي الأهواء والبدع.

يقول علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-: “لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله يمسح على ظاهر خفه”.

وقد قال بعض السلف كأبي الزِناد وغيره: “وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار أوَّليَّة الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب، ويعيبون الأخذ بالعقل أشد العيب، وينهون عن لقائهم ومجالستهم، ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف”.

حتى قال الأصبهاني -رحمه الله-: “إذا رأيت الرجل إذا قيل له: لم لا تكتب الحديث؟ يقول: العقل أولى، فاعلم أنه صاحب بدعة”4.

بل لقد ذهب الشافعي -رحمه الله- إلى أبعد من هذا، حيث جعل ترك السنة والاعتراض عليها وعدم الأخذ بها نوع جنون أو هو جنون، وإن لم يكن حسياً، فقد قال -رحمه الله-: “متى عرفتُ لرسول الله حديثًا ولم آخذ به فأنا أشهدكم أن عقلي قد ذهب”.

ومن هنا وصف ابن تيمية -رحمه الله- العقل بالصنم إذا غلا فيه المرء وطغى، فقال -رحمه الله-: “والداعون إلى تمجيد العقل إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، وما كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل”.

ولله ما أجمل كلاماً لابن القيم -رحمه الله- يشفي العليل، ويروي الغليل، في تقرير هذه المسألة حيث يقول: “أن الحجج السمعية مطابقة للمعقول والسمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح، بل هما أخوان نصيران، وصل الله بينهما وقرن أحدهما بصاحبه…”5 6

عباد الله:

إن العقلانيين أصحاب رؤى متعددة وأمزجة مختلفة وأهواء فاسدة، فهم لا يؤمنون بالمعجزات والغيبيات، ولا يسلمون لنصوص الكتاب والسنة. فهم أصحاب أهواء وتمرد على الدين فيأخذون من الدين ما وافق هواهم فقط. ويكثرون من الفلسفة والجدل

ثم اعلموا -أيها الناس-:

أن “العقلانين” أصحاب مبدأ (قياس الدين بالعقل) فقرروا أن للعقل سلطاناً مبيناً، فقدموا العقل على الدين، و أخروا الدين لمرتبة أسفل السافلين.

ونفوا كلام محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- لاختلافه مع العقل -في ظنهم- فهم أتباع إبليس.

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }(75-76) سورة ص.  “ومن الفوائد: أن من قدم العقل على السمع فإنما هو متبع لخطوات الشيطان، لأن الشيطان قدم ما يدعي أنه عقل على السمع فأخطأ في ذلك، فهكذا كل من قدم العقل على السمع؛ سواء في العلميات وهي علم العقائد، أو في العمليات؛ فإنه مشابه لإبليس، متبع لخطواته، واعلم أن كل بلية تقع من تحريف الكلم عن مواضعه، والاستكبار عن عبادة الله، وغير ذلك؛ فأصلها من إبليس”7  

فاتقوا الله عباد الله واقدروا الله حق قدره. وإياكم وإتباع الأهواء، واتبعوا ولا تبتدعوا.

اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والفسوق والعصيان، ونعوذ بك من الهوى والطغيان، ونسألك الخشية والإنابة والخضوع بين يديك، وارزقنا الإتباع، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا واجعلنا من الراشدين.

وصلِّ على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً.