بدائل السجن
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأصلي وأسلم على خير خلقه، وأكرم رسله، أما بعد:
فإن من مزايا الفقه الإسلامي أنه تشريع واقعي، يتعامل مع واقع البشر، ويسع جميع تصرفاتهم بأحكامه المنصوصة في الكتاب والسنة، أو المستنبطة منهما بطريق من طرق الاستنباط والاستدلال، وليس منهجاً صورياً بعيداً عن الواقع، ومن هنا وسعت قواعده وضوابطه كل جديد من الأحداث والتصرفات، وعمت بكليتها كل مكان وزمان، ومن المسائل التي تتخرج على جملة من قواعد الفقه: مسألة بدائل السجن.
ومعنى بدائل السجن:
البدائل: جمع: بديل، على غير القياس الصرفي؛ والبديل في اللغة: ما يخلف الشيء ويقوم مقامه1.
وقد عُرفت بدائل السجن بأنها: مجموعة من التدابير التي تحل محل عقوبة السجن وتعمل على تطبيق سياسة منع الجريمة"2.
ويمكن الإتيان بتعريف قريب إلى تصرفات الفقهاء فيقال: بدائل السجن اصطلاحاً: "ما يحل محل السجن في تحقيق المصلحة الشرعية للفرد والجماعة من عقوبات التعزير".
مشروعية بدائل السجن:
بدائل السجن لها حكم التعزير؛ إذ هي أفراد داخلة تحت اسمه، والأصل في التعزير ثبوت شرعيته إجمالاً من الكتاب والسنة والإجماع، ويزيد طائفة من الأصوليين في مشروعية السجن أنه من باب المصلحة المرسلة، ويسندون اتخاذ الصحابة مكاناً معيناً للسجن إلى المصلحة المرسلة؛ إذ لم يكن عندهم في ذلك نص خاص قولي أو فعلي3.
سبب التطرق إلى البدائل: يفهم من لفظ: "البديل" لغة وعرفاً أنه عوض عن مبدل عنه، فالمبدل عنه أصل مستقر يأتي البديل خلفاً ونائباً له، ولم يتطرق متقدمو الفقهاء للبحث عن قضية بدائل السجن؛ لأن السجن كان ينظر إليه على أنه أحد أفراد العقوبات التعزيرية، ولم يتقرر كونه أصلاً في العقوبات، ولم ينحصر التعزير فيه حتى يبحث له عن بديل، بل إنه بصفته فرداً من أفراد التعزير يصح أن يوصف بأنه بديل عن غيره أحياناً.
فالبحث عن بدائل السجن دليل على سبقه في باب العقوبات، وطغيان استعماله سواء كان استعمالاً مشروعاً أو غير مشروع.
ويبدو أن السبب في إثارة البحث عن بدائل للسجن في العصور المتأخرة، أمور منها ما يلي:
1- طغيان استعمال السجن على جل الجرائم؛ حتى أصبح التعزير منحصراً فيه غالباً.
2- التنبه إلى بعض العيوب الجسيمة للسجن وعدم تحقيقه للمصلحة المقصودة من تشريع العقوبات التعزيرية؛ ولذا عقدت مؤتمرات دولية ومحلية لدراسة أوضاع السجون وإصلاحها.
ومن العيوب التي ذكرت للسجن4: ما يحصل للمسجون من نتائج اختلاطه بالمسجونين الذين يغلب على بعضهم الفساد والإفساد، فهو إن كان صالحاً قد يفسد، وإن غير ذلك قد يفسد غيره؛ لما علم من قوة تأثير الخلطة في الأخلاق سلباً وإيجاباً.
3- توافر بدائل للسجن، تقوم مقامه – أحياناً – مع تجنب عيوبه.
4- عدم تحقيقه – إما مطلقاً أو غالباً – للغاية التي من أجلها شرع السجن وفتحت السجون، وهي إصلاح الجاني وحماية المجتمع.
نماذج من بدائل السجن:
عنونت هذه المسألة بنماذج؛ لأن بدائل السجن نوع من أنواع العقوبات التعزيرية، ومن طبيعة التعزير أن تحديده وتقديره وتعيينه مفوض إلى اجتهاد الحاكم المتأهل لذلك.
ويترتب على ذلك أمور، منها:
1- أن السجن لا يتحتم الحكم به في كل قضية لا حد فيها ولا كفارة، بل هو فرد من أفراد التعزير، قد يختاره الحاكم وقد يختار غيره.
2- أنه من الطبيعي أن يكون للسجن بديل يقوم مقامه ويحقق غايته.
3- أن الأصل في بدائل السجن عدم حصرها؛ نظراً لتبعيتها لاجتهاد من هو أهل للاجتهاد من القضاة من ناحية، وارتباطها بتحقيق المصلحة الشرعية المقصودة من تشريع العقوبات من ناحية أخرى.
4- أن كل فرد من أفراد التعزير يصلح أن يكون بديلاً عن السجن، إذا توافرت فيه شروط البدلية، وانتفت عنه الموانع الشرعية.
ومن النماذج التي يمكن أن تذكر: الجلد، والحرمان من ممارسة بعض التصرفات، والعزل عن العمل، والإقامة الجبرية في المنزل، وتكليف الجاني بعمل يراه القاضي، وسحب الأوراق الرسمية كجواز السفر، إلى غير ذلك.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى جملة من البدائل بقوله: "قد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه، والإغلاظ له، وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب….وقد يعزر بعزله عن ولايته… وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين… وقد يعزر بالحبس، وقد يعزر بالضرب، وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوباً"5.
شروط إقامة البدائل:
ملاحظة تحقق الشروط لترتب آثار تصرفات المكلفين، من القضايا العلمية التي ينبغي التنبه إليها؛ إذ هي سارية في كثير من المجالات العلمية والعملية، ومع ذلك يغفل عنها كثيراً، ويترتب على هذه الغفلة خلل يجل ويصغر بحسب الحال، يقول العز بن عبد السلام: "كل تصرف جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، فقد شرع الله فيه من الأركان والشرائط ما يحصل تلك المصالح المقصودة الجلب بشرعه، أو يدرأ المفاسد المقصودة الدرء بوضعه"6.
ومن الشروط التي يجب توافرها لمشروعية الأخذ ببدائل السجن ما يلي:
1- أن يكون البديل محققاً للمصلحة المقصودة من شرع التعزير: وبيان ذلك أن البديل قد تتجاذبه المصالح البشرية الشخصية، إلا أنه لا يكون بديلاً شرعياً إلا إذا كان محققاً للمصلحة الشرعية، يقول القرافي: "متى قلنا الإمام مخير في التعزير فمعناه أن ما تعين سببه ومصلحته وجب عليه فعله ويأثم بتركه، فهو أبداً ينتقل من واجب إلى واجب كما ينتقل المكفر في كفارة الحنث من واجب إلى واجب…، والإمام يتحتم في حقه ما أدت المصلحة إليه، لا أن هاهنا إباحة البتة، ولا أنه يحكم في التعازير بهواه وإرادته كيف خطر له، وله أن يعرض عما شاء ويقبل منها ما شاء، هذا فسوق وخلاف الإجماع"7.
2- أن يكون المحل قابلاً لإقامة البديل في حقه:
لأن الجناة ليسوا في درجة واحدة ولا على وصف واحد، فبعضهم يكون فيه وصف يوجب تخفيف العقوبة كالمرض والصغر والكبر، وعدم قصد الجناية، وكونه امرأة، كما يتصف بعضهم بوصف موجب للتشديد كتكرر الجريمة منه، أو كونه قاصداً للجريمة، أو مماطلاً للحق مع قدرته على السداد…. الخ.
3- أن لا يكون في البديل ضرر أكبر من ضرر السجن.
مع ما في السجن من مصالح متعددة؛ فإنه قد تنتج عنه أضرار، وقد يغلب ضرر السجن أحياناً على مصلحته، كما أن البديل أيضاً قد يكون فيه ضرر أشد من ضرر السجن، وإذا لم يكن بد من ارتكاب الضرر فالقاعدة الفقهية تقضي بارتكاب أخف الضررين، وإلغاء ما فيه ضرر أشد.
4- أن لا يوجد مانع من تطبيق البديل على المحكوم عليه.
القواعد والضوابط الفقهية التي تتخرج عليها بدائل السجن:
هناك عدد من القواعد الفقهية التي يمكن أن تسند إليها بدائل السجن نظراً وتطبيقاً، ومن هذه القواعد ما يلي:
القاعدة الأولى: "كل تصرف لا يترتب عليه مقصوده لا يشرع ويبطل إن وقع"8 ولفظ "التصرف" المحكوم عليه في هذه القاعدة يدخل تحته كل تصرف سواء كان تصرفاً مالياً أم تصرفاً غير مالي كالحد والتعزير، وغيرهما، والسجن تصرف من تصرفات الولاة، وإذا لم يحقق المقصود منه فإنه لا يجوز الأخذ به، بل يعد الأخذ به حينئذ محرماً شرعاً، ويترتب على ذلك أن يؤخذ ببدائله.
وقد علم أيضاً أن السجن جنس واحد، وأن الجنايات متفاوتة من حيث الجسامة، ومن حيث قصد الجاني وعدم قصده، وتكرار الجناية من عدمها، ومن حيث خطر الجاني، والسجن وحده قد لا يكون محققاً المصلحة المقصودة، ويلزم من هذا إيجاد بدائل للسجن تحقق المصلحة الشرعية المقصودة من تشريع التعزير.
القاعدة الثانية: "الأصل ملائمة العقوبات التعزيرية للجنايات"9.
بناء على هذا الأصل مع ما عرف من أن السجن لا يلائم كل الجنايات، فإن إقامة بدائل للسجن أمر لا بد منه.
القاعدة الثالثة: مهما حصل التأديب بالأخف من الأفعال والأقوال والحبس والاعتقال لم يعدل إلى الأغلظ؛ إذ هو مفسدة لا فائدة فيه لحصول الغرض بما دونه"10.
هذا الضابط الذي نص عليه العز بن عبد السلام، واضح الدلالة على المراد؛ إذ كل فرد من أفراد التعزير ومنها السجن إذا كان غيره أقوم بالمصلحة منه فإنه لا يعدل إلى الأشد الأغلظ.
أنواع بدائل السجن:
تقسم بدائل السجن أقساماً، فمن ذلك:
ماكان بالنظر إلى تعينه وعدم تعينه، يمكن أن يقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يتعين فيه البديل لعدم تحقيق الحبس للمصلحة الشرعية، بأن يكون – مثلا – في الحبس ظلم أو مفسدة ظاهرة للمسجون.
الثاني: ما يتعين فيه الحبس لعدم تحقيق البديل للمصلحة الشرعية، وذلك إذا كان السجن هو الوحيد من بين أفراد التعزير يحقق المقصود، سواء حماية المجتمع، أو إصلاح الجاني، أو حفظ الحقوق وغيرها.
الثالث: ما لا يتعين فيه أحدهما، بل يختار ولي الأمر ما يراه راجحاً من أفراد العقوبات التعزيرية.
وهذا التعين وعدمه قد يكون أساسه صفة قائمة بالشخص المحكوم عليه، تمنع من إقامة البديل في حقه أو تعينه، وقد يكون أساسه نوع القضية وصفتها.
وقد أشار القرافي11 رحمه الله إلى نماذج من موجبات السجن فذكر منها: حبس الجاني لغيبة المجني عليه حفظاً لمحل القصاص، وحبس الممتنع عن دفع الحق، وحبس الجاني تعزيراً وردعاً عن معاصي الله تعالى، وحبس الممتنع في حق الله تعالى الذي لا تدخله النيابة كالصوم عند الشافعية، وحبس من أقر بمجهول عين أو بشيء في الذمة، وامتنع من تعيينه فيحبس حتى يعينهما.
ثم أشار إلى ما تتعين فيه البدائل قائلاً: "ولا يجوز الحبس في الحق إذا تمكن الحاكم من استيفائه فإن امتنع من دفع الدين، ونحن نعرف ماله أخذنا منه مقدار الدين، ولا يجوز لنا حبسه، وكذلك إذا ظفرنا بماله أو داره أو شيء يباع له في الدين كان رهناً أم لا فعلنا ذلك، ولا نحبسه؛ لأن في حبسه استمرار ظلمه، ودوام المنكر في الظلم وضرره هو مع إمكان أن لا يبقى شيء من ذلك كله".
ومن ناحية أخرى يقسم البديل إلى قسمين: بديل عن أصل السجن، وبديل عن بعض المدة المقررة.
وبالنظر إلى نسبتها إلى السجن في الشدة والضعف تنقسم إلى بدائل أشد من السجن وبدائل أخف منه.
وبالنظر إلى نوع البديل يقسم إلى بديل مالي وبديل غير مالي، وبديل حسي وبديل معنوي.
ومن أراد التوسع في المسألة فليرجع إليها ليجدها مبسوطةً في كتب الفقه.
وصلى الله على محمد وعلى آله، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 القاموس المحيط (1247).
2 مشروع بدائل السجن المقترح، إعداد وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية ص: (3).
3 نشر البنود على مراقي السعود (185/2).
4 موجبات السجن محمد الجريوي (139/1-146).
5 مجموع الفتاوى (344/28).
6 القواعد الكبرى (258/2).
7 الفروق للقرافي (182/4).
8 القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام (249/2)، والذخيرة للقرافي (341/4)، والفرق(184) من فروق القرافي، والمجموع المذهب للعلائي (346/2).
9 الفروق للقرافي (179/4).
10 القواعد الكبرى (157/2).
11 الفروق للقرافي (79/4-80).