الغفلة صفات أصحابها ومفاسدها

الغفلة صفات أصحابها ومفاسدها

 

الحمد لله, والصلاة والسلام على رسوله, وعلى آله وصحبه, ومن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّ من الأدواء المُهلكة، والحُجُب التي تحجبُ عن اللهِ، وتعمي البصر والبصيرة، والتي بسببها كان هلاك قوم بأجمعهم؛ داء الغفلة عن الله، فقال تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ}[الأعراف: 136]، وليستِ الغفلةُ مُقتصرةً على الجاهل فقط، بل إنَّ بعضَ المُتعلِّمين ممن يحملون شهادات مرموقة في علوم الدنيا هم من الغافلين؛ كما أخبر الله عنهم, فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم: 7]. فما هي صفات الغافلين حتى لا تكون فينا صفة من صفاتهم ونحن لا نشعر؟! وللإجابة عن ذلك نقول من صفاتهم ما يلي:

1.  أنَّك تراه عاقلاً، ولكنه في الحقيقة لا عقل له، فهو لا يميز بين الحق والباطل، وأنت كذلك تراه له أذنان، ولكنه لا يسمع بهما الحق، ولكن يسمع بهما الباطل، وله عينان، ولكنه لا يرى بهما الحق، فهو في الآخرة من الخاسرين؛ كما أخبر بذلك رب العزة والجلال, فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ}[النحل: 107-109].

2.  مشغول بزينة الدنيا، متبع لهواه، يلهو عند تذكيره بالله، مفرط في أمر دينه ومولاه، ولذلك فقد حذَّر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والأمة جمعاء من مجالسة هذا الصنف من الناس؛ فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: 28]، وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}[الأنبياء: 1-3].

3.  ومن صفات الغافل أنه لا يذكر الله إلا قليلاً، والله قد أرشد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الإكثار من ذكره، وأمته تبعاً له، فقال سبحانه: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ}[الأعراف: 205]، وعَنْ يُسَيْرَةَ – وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ-, قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ))1.

4.  تقعد به غفلته عن الترقي في مراتب الكمال، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في ذلك: "لا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان؛ كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت". وقال أيضاً: "إن مجالسَ الذكرِ مجالسُ الملائكةِ، ومجالسَ اللغوِ والغفلةِ مجالسُ الشياطينِ، فليتخيرِ العبدُ أعجبهما إليه وأولاهما به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة"2. وهذه باختصار بعض صفات الغافلين، وللغفلة مفاسد ومضار متعددة، فمن مفاسدِها كما لخَّصها بعضُ أهلِ العلمِ في ستِّ أمورٍ:

أولها: أنها تجلبُ الشيطانَ وتُسخطُ الرحمنَ.

ثانيها: أنها تُنزل الهم والغم في القلب وتبعد عنه الفرح وتميت السرور.

ثالثها: أنها مدعاة للوسوسة والشكوك.

رابعها: أنها تورث العداوة والبغضاء وتذهب الحياء والوقار بين الناس.

خامسها: أنها تبلد الذهن وتسد أبواب المعرفة.

سادسها: أنها تُبعد العبد عن الله وتجره إلى المعاصي3.

والغفلة داء وهذا لا يختلف عليه اثنان، ولكن ما هو الدواء؟ أقول الدواء يكمن في البعد عن صفات الغافلين الآنفة الذكر، والإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مَشَى طَرِيقًا فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً وَمَا مِنْ رَجُلٍ أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً))4.

نسأل أن يوقظنا من غفلتنا، وأن يرزقنا دوام ذكره، اللهم إننا نسألك قلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وجسماً على البلاء صابراً. ربنا آتنا في الدنيا حسنة, وفي الآخرة حسنة, وقنا عذاب النار.


1 رواه الترمذي وأبو داود، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، رقم (1329)، بدون زيادة: (ولا تغفلن فتنسين الرحمة).

2 الوابل الصيب صـ (62).

3 انظر نضرة النعيم (11/5108).

4 أخرجه أحمد (9583)، وهو في السلسة الصحيحة رقم (79).