الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله

الحمد لله البر الجواد الكريم، القابض الباسط الرحمن الرحيم، نحمده تعالى على فضله العظيم، وإحسانه العميم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بالإنفاق في سبيله، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أنفق ماله في سبيله، وعلى آله وأصحابه السالكين على منهجه القويم، وصراطه المستقيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله ربكم فإن من اتقاه وقاه، ومن خافه أمَّنه، ومن أنفق في سبيله زاده، وأخلف عليه قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، واعلموا أن الإنفاق في سبيل الله من أعظم أبواب الخير وأجلها، وأبركها وأنفعها، فما أنفق شخص في سبيل الله إلا رفع الله شأنه، وأعلا مكانته، وأعظم منزلته، فهو في سعادة وطمأنينة، وماله في نمو وزيادة قال الله تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، فشبه الله سبحانه النفقة في سبيله بمن بذر بذراً فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل، اشتملت كل سنبلة على مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، وهذا بحسب حال المنفق وإيمانه، وإخلاصه، وإحسانه، ونفع نفقته، فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان، والإخلاص، والتثبيت عند النفقة وهو إخراج المال بقلب ثابت، قد انشرح به صدره، ورضيت به نفسه، وخرجت من قلبه قبل أن تخرج من يده، وقد يتفاوت بحسب نفعه، ومصادفته لموقعه، وطيب المنفق وزكائه1، وقال تعالى في معرض زيادة الأجر والثواب لمن أنفق في سبيله: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265].

فهنيئاً للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله لا يريدون بذلك إلا وجه الله، ثواب عظيم، وأجر جزيل، ورزق كريم، ومغفرة من الله، وذكر جميل، ومدح طويل، ونفس طيبة، وقلب منيب أواه، وعمل مبرور، وسعي مشكور، وأحب الناس إلى الله أنفعهم لعباد الله2، وفي الحديث عن عائشة – رضي الله عنها – عن رسول الله   قال: إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أُحُدٍ3، وعن أبي ذر  أنه قال: قال رسول الله  : ما من عبدٍ مسلم ينفق من كل مالٍ له زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن كانت إبلاً فبعيرين، وإن كانت بقراً فبقرتين4، وعن خريم بن فاتك  أنه قال: قال رسول الله  : من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف5.

أيها المسلمون: إن الإنفاق في سبيل الله شيء عظيم، وعمل قويم، قرنه الله  بأمور عظيمة، وأركان جسيمة، فالصلاة ركن من أركان الإسلام، بل هي عمود الدين وأساسه، فالإنفاق يأتي مقترن بها لعظم شأنه، وقوة نفعه، وأهمية أمره، قال تعالى مبيناً ذلك الاقتران: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، وقال  : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3]، وقال سبحانه: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [إبراهيم:31]، قال ابن كثير في تفسيره لهذا المعنى: “كثيراً ما يقرن الله – تعالى – بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده، والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه، والتوكل عليه، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم”6.

عباد الله: جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول الله  فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله : لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطوم7، فهل رأيتم كرماً كهذا، وهل سمعتم بمكأفةٍ كهذه، وهل علمتم ملك يجازي كهذا، لا والله ما سمعنا، وما علمنا، ولا رأينا من يجازي كهذا الجزاء، لكنه كرم إلهي، يجازي به المنفقين في سبيله، المبتغين وجهه، والطالبين رضاه، والفارين من سخطه، إنه الله .

وهذا عثمان بن عفان ذلك الرجل المنفق في سبيل الله، والذي بذل ماله وما يملكه رخيصاً في سبيل الله، لا لشيءٍ من أمور الدنيا وإنما ابتغاء وجه الله، فها هو يحكي لأصحاب رسول الله ما أنفق في سبيل الله يذكرهم ببشارة النبي  له بالجنة لعل أولئك الذين جاؤوا من الأمصار يفيقوا ويرجعوا عن غيهم، ولعلهم يذكرون هذه المواقف فيرجعون عن ما أقدموا عليه، فقال لهم: أنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي : “ألستم تعلمون أن رسول الله  قال: من حفر رومة فله الجنة فحفرتها؟ ألستم تعلمون أنه قال: من جهز العسرة فله الجنة، فجهزته؟ فصدقوه بما قال”8 قال الحافظ ابن حجر: “إن عثمان  قال: هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله  : من يشتري بقعة آل فلانٍ فيزيدها في المسجد بخير منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي9، وذكر في رواية النسائي أنه اشتراها بعشرين ألفاً أو بخمسةٍ وعشرين ألفاً، وذكر من مرسل قتادة: أن عثمان حمل على ألف بعير، وسبعين فرساً في العسرة”10 فأين أصحاب الأموال، وأين أصحاب التجارات، والعقارات، والشركات؛ أما آن لهم أن يسمعوا الآيات البينات التي فيها الجزاء العظيم لمن أنفق في سبيل الله، أما آن لهم أن يقتدوا بعثمان – رضي الله عنه وأرضاه – فينفقوا من أموالهم في سبيل لله؟! فتكون هذه الأموال سبباً في نصرة هذه الأمة، ورفعتها، وتقدمها، ورفع الظلم عنها، فيفوز أصحاب هذه الأموال في الدنيا بالسعادة، والراحة، والطمأنينة، والسكينة، والبركة، وفي الآخرة بالجنة، والجزاء العظيم، والرضا من الله، فما أعظمها من سعادة، وما أعظمه من ربح لمن أنفق في سبيل الله، وترك البخل والشح، وجاهد نفسه ففاز بهذا الأجر العظيم، والجزاء الكبير.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الفتاح الوهاب، الجواد الكريم، ذي الفضل الواسع، والكرم العميم، والنعم البالغة، والمنن السابغة، والعطاء الجسيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، الواحد الأحد، الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه الموصوف بالجود والكرم، وعلى أصحابه السالكين على منهجه القويم، أما بعد:

أيها المسلمون: إن الله ​​​​​​​ قد امتدح أصحاب هذه الصفة العظيمة، والخصلة الجزيلة؛ في غير ما آية من كتابه الكريم فقال : الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274] وقال  : الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، وقال سبحانه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16] فما أعظمه من وصف، وما أجله من مدح، فقد ذكر الله ​​​​​​​ في الآية الأولى بعد أن ذكر الجنة فقال” أعدت للمتقين ما وصفهم يا رب، وما علامتهم؟ قال: ينفقون بالليل والنهار، في السراء والضراء، فهم أهل إحسان، وأهل قيام وصيام.

ثم اعلموا عباد الله: أن هناك أمر خطير يهدم هذه الأعمال ويضيعها ألا وهو المن والأذى، فكثير من المسلمين يتصدق وينفق، ولكنه يتبعها منَّاً وأذى، وهذا أمر قد ذكره الله ​​​​​​​ في كتابه وذمه فقال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:262]، بيَّن الله في هذه الآية الكريمة: أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لايتبع إنفاقه منَّا ولا أذى؛ لأن المن والأذى مبطلان لثواب الصدقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذه، وإنما على المرء أن يريد وجه الله – تعالى – وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه، ولا يرجو منه شيئاً، ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه قال الله – تعالى -: لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا [الإنسان:9] ومتى أنفق ليريد من المنفق عليه جزاءً بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله، فهذا إذا أخلف ظنه فيه منَّ بإنفاقه وأذى، وكذلك من أنفق مضطراً، أو لقرينة أخرى من القرآئن لم يرد وجه الله، وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله، وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله11.

ثم اعلموا عباد الله: أن الذي اتصف بهذه الصفة أي (صفة الإنفاق في سبيل الله) إنما ذلك دليل على كمال إيمانه، وحسن إسلامه، وسخاء نفسه وارتقائها، ثم إنه بهذا العمل يسعى إلى محبة الله ورضوانه، والوصول إلى جناته، والاستظلال بظله، وهو يجني بذلك الألفة والمحبة، وتقوية العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأمة الإسلامية، فيكون بذلك قد أدى شكر نعمة الله ​​​​​​​ عليه بالمال، إذ إن المالك على الحقيقة هو الله ​​​​​​​، فإذا أنفق في سبيل الله فإن الله يضع البركة في المال، ويكون سبباً في زيادته ونمائه، ويكون وقاية للإنسان من المصائب والبلايا، وسبباً في تزكية نفسه وتطهيرها بإخراج الشح منها.

فاتقوا الله عباد الله: وأنفقوا في سبيل الله من أموالكم، وممتلكاتكم، وثرواتكم؛ لكي تفوزوا برضوان ربكم وجناته، وتستظلوا يوم القيامة بظله، وتعملوا على دعم الروابط الاجتماعية والأسرية، وتقووا بذلك الصلات بين أفراد المجتمع، فهذا دليل على أن المنفق في سبيل الله ذو طبع سليم، وأريحية كريمة، ثم إن الإنفاق في سبيل الله مدعاة لنصرة الله ​​​​​​​ لهذه الأمة المسكينة الضعيفة المنكوبة.

اللهم إنا نسألك يا كريم، يا رحيم، يا جواد، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد؛ أن توفقنا لما تحبه وترضاه، وأن تعيننا على أنفسنا، وأن تنصر أمتنا، إنك على كل شيء قدير.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين

والحمد لله رب العالمين.


1 نضرة النعيم (3-600).

2 الفتوحات الربانية بالخطب والمواعظ القرآنية (119).

3 صحيح ابن حبان (3371)، وأصله في البخاري (1410).

4 رواه النسائي (6-48)، وقال الألباني (2-670)، صحيح وذكره في الصحيحة برقم (2260).

5 رواه النسائي (6-49)، وقال الألباني (2/671)، صحيح وذكره في صحيح الجامع برقم (6110)، والترمذي في صحيحة برقم (1691). وصححه محقق” جامع الأصول”.

6 راجع: تفسير ابن كثير (1-43).

7 صحيح مسلم (1862).

8 البخاري (2778).

9 رواه الترمذي (3703)، وحسنه الألباني.

10 الفتح (5-408).

11 تفسير القرطبي (3-307).