وقل رب زدني علما

وقل رب زدني علما

 

الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وأعطى أهل العلم المقام الأكرم، والصلاة والسلام على خير الخلق محمد، وعلى آله وصحبه وسلم..أما بعد:

فإن الله عز وجل خلق الخلق ثم جعل لهم مقاييس يرفع بها أناس ويضع آخرين، ومن هذه المقاييس، العلم، نعم العلم الذي يرفع الله به من يشاء من خلقه، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[المجادلة: 11]، يقول الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: "‏{والذين أوتوا العلم درجات} أي: ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات"1.

أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه، وكيف يعامل عباده، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة، ونوره ليس لصاحبه فقط بل للناس الذين من حول صاحب العلم، فالعالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولا يخفى على كثير من قصة الرجل الذي من بني إسرائيل ".. قتل تسعاً وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدلّ على رجلٍ عابد فسأله هل له من توبة؟ فكأن العابد استعظم الأمر، فقال: لا فقتله فأتم به المائة، ثم ذهب إلى عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لا شيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دلّه على بلد أهله صالحون ليخرج إليها فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق.."2 فانظر الفرق بين العالم والجاهل.

ما أجل العلم وما أحلاه وما أحيلاه، فصاحب العلم منذ تحصيله له وهو في خير عظيم، وله من الأجور ما يغبط عليها، مع ما يلاقيه من الكرامات في الدينا قبل الآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((..من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه))3.

إن الذي يخرج إلى بيت الله عز وجل صار كالمجاهد في سبيل الله، فتعلم العلم وتعليمه جهاد، ففيه مشقه وفيه تعب، ولهذا جعل كالجهاد في سبيل الله تعالى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من جاء مسجدي هذا؛ لم يأته إلا لخير يتعلمه، أو يعلمه؛ فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك؛ فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره))4.

إن العلماء هم صمام أمان هذه الأمة، وهو من يحفظون لها دينها بأمر الله سبحانه وتعالى، فعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يرث هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين))5، والعلماء مع ذلك هم أرحم الناس بالناس، بل أرحم بالخلق من آبائهم وأمهاتهم، يقول يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: "العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا؛ وهم يحفظونهم من نار الآخرة"6.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل: "يا كميل العلم خير من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق"، وقال أيضاً: "العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه"7.

الناس من جهة التمثال أكفاء *** أبـوهـم آدم والأم حـواء

فإن يكن لهم في أصلهم نسب *** يـفاخرون به فالطـين والماء

ما الفضل إلى لأهل العلم أنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرءٍ ما كان يحسـنه *** والجاهلون لأهل العـلم أعداء

فـفز بعلم ولا تقنع به بـدلاً *** فالناس موتى وأهل العلم أحياء

وأختم بهذه القصة التي يتجلى فيها فضل العلم، وأن الإنسان ما هو إلا بالعلم، وأن العلم رفعة في الدنيا والآخرة، يقول الزهري رحمه الله تعالى: "قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال لي: من أين قدمت يا زهري؟ قلت: من مكة. قال: فمن خلفت يسود أهله؟ قال: قلت: عطاء بن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟، قال: قلت: من الموالي. قال: وبم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا، فمن يسود أهل اليمن؟ قال: قلت: طاووس بن كيسان. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: وبم سادهم؟ قال: قلت: بما سادهم به عطاء. قال: إنه لينبغي، فمن يسود أهل مصر؟ قال: قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل الشام؟ قال: قلت: مكحول. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قال: قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال قلت من الموالي. قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب. فقال: ويلك يا زهري، فرجت عني، والله ليسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها! قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه؛ من حفظه ساد، ومن ضيعه سقط"8.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وازدنا علماً، اللهم اهدنا وسددنا، وألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا..وصلي اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 فتح القدير (5/189).

2 رواه مسلم (4967).

3 رواه مسلم (4867).

4 رواه ابن ماجه (223)، أحمد (9051)، وقال الألباني: صحيح، انظر صحيح ابن ماجه برقم (186).

5 سنن البيهقي الكبرى برقم (20700)، وقال الألباني: صحيح، انظر مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني برقم (248).

6 إحياء علوم الدين (1/11).

7 إحياء علوم الدين (1/7).

8 تاريخ دمشق (56/305).