الإصرار على المعاصي

الإصرار على المعاصي

الإصرار على المعاصي

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله: إن الله جل وعلا خلق الإنسان ليبلوه بالشر والخير، ليعلم الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، وإن الله تعالى قد أوجد في هذه الحياة أنواعاً من المتضادات: الخير والشر، الطاعة والمعصية، الإسلام والكفر، ولا يزال الناس يتأرجحون بين هذين الطرفين، إلى أن تقوم الساعة..

وإن مما اقتضته حكمة الله تعالى وسنته الكونية وقوع المعاصي في الحياة الدنيا، حتى من المسلمين المؤمنين، فكل إنسان خطاء إلا من عصمه الله تعالى، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)1.

إذا تقرر هذا فاعلم أيها المسلم أن الوقوع في الخطأ ليس هو الخطأ بعينه، وإنما الإصرار على الخطأ والمعصية هو المصيبة الكبرى والداهية العظمى، فكم من صغيرة كانت بالإصرار عليها كبيرة! وكم من ذنب صغير أدى الإصرار عليه بصاحبه إلى الكفر! وكم من صغيرة يراها الإنسان كذلك وهي عند الله عظيمة بسبب الإصرار عليها، والتمادي في فعلها، وترك الإقلاع عنها؛ مع ظهور الأدلة، ووضوح الحجة.

أيها المسلمون: إن الله -جل جلاله- لما وصف المؤمنين الصادقين لم يصفهم بأنهم لا يذنبون، فهذا مستحيل في الإنسان، ولكن جعل من أعظم صفاتهم أنهم إذا وقعوا في الخطأ لم يصروا عليه، بل يتذكرون ويعلمون أنهم عصوا، فيسوقهم ذلك إلى الإقلاع عن الذنب، والتوبة إلى الله رب العالمين.. يقول -سبحانه وتعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (135) سورة آل عمران.

عباد الله: إن الإصرار على المعاصي قد أصبح سلوك كثير من الناس في زماننا، وإذا ذُكِّر أحدهم أو نصح أجابك بأن الله غفور رحيم، ويكفي منه هذا القول لتبرير تماديه في المعصية، وهذا من تسويل الشيطان وإغوائه الذي أقسم على ذلك أشد القسم.. نعم، إن الله تعالى غفور ورحيم ولكنه أيضاً شديد العقاب لمن تجرأ على حرماته وانتهك ممنوعاته وتعدى حدوده، لقد قال الله تعالى: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (98) سورة المائدة ، فقد جمع بين الأمرين لئلا يتكل الناس على رحمة الله وينسوا العمل الصالح، أو يقعوا في الموبقات والمهلكات بحجة أن الله غفور رحيم..

وقال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (49-50) سورة الحجر، فكما أن الله تعالى غفور رحيم، فإنه شديد العقاب لمن تجرأ على دينه وشرعه.

فهذا هو نبأ الله لكل العالمين، وخبره للإنس والجن أجمعين؛ ليحيا من حيَّ كبرى وطامة عظمى؛ لأن عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة..

أيها المسلمون: إن الإصرار على المعصية مصيبة ذلك قد يكون سبباً في سوء الخاتمة، والنهاية المؤسفة! كم من إنسان أصر على ترك الصلاة فمات على ذلك! ماذا يقول لله رب العالمين؟ وبماذا يلاقيه؟ كم من إنسان أصر على الفجور وشرب الخمور، فكان آخر حياته ذلك..! كم من إنسان يقول لا إله إلا الله لكنه ختم له بكلام بذيء وقول فاحش وتعبير سيء، بسبب إصراره على قول السوء وشهادة الزور والكلام الباطل والسب واللعن!! إن ذلك كله -عباد الله- من عقوبات الإصرار على المعاصي.

عباد الله: إن من أظهر الأسباب التي تدعو العاصي إلى الإصرار على المعاصي هي:

1- خوف فوات بعض المصالح: فالعاصي يخشى فوات بعض المصالح الدنيوية الزائلة إذا تاب، فالمرابي يخشى قلة الربح إذا أقلع عن الربا، والزاني يخشى فوات اللذة والمتعة إن هو أقلع عن زناه، والسارق يخشى من القلة، وفوات جمع المال من الطرق الممنوعة.

2- ومن أسباب الإصرار: التسويف بالتوبة، حيث يغريه الشيطان بتأخير التوبة ليتمتع بشبابه أو بمصالحه –بزعمه وجهله-، وكلما دعاه داعي الخير للتوبة دعاه داعي الشر لتأجيلها. حتى يدركه الموت وهو على هذه الحال.

3- نسيان لحظة الموت: فهو ينسى أن له موعداً محدداً لا يزيد عليه، ولا يمكن لقوة من قوى الأرض أن تزيد في عمره أقل من ثانية.. وينسى أن هذه اللحظة قد تأتي في أي وقت من عمره.

4-  غلبة العادة: فقد تعود على فعل المعصية حتى غدت جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية، فلا يعرف العيش ولا يتصوره من غيرها.

5- دناءة الهمة وخستها: فالدافع إلى إحداث التغير عنده ضعيف، فهو متردد بالتغيير، خائف منه. فهمَّته عالية باقتراف المعصية، وسافلة في معالي الأمور.

6-  عدم الخوف من الله تعالى: فلو كان في قلبه خوف قوي من الله تعالى لما أصرَّ على معاصيه.

7-  عدم الإحساس بلذة العبادة: فهو يحاول أن يقلع، ولكنه لا يجد لذة عند إقلاعه عن المعصية، وذلك بسبب تعلق قلبه وتشبثه بها.2

8- ومن أسباب الإصرار على المعصية أيضاً: رفقاء السوء، فكلما أراد الإقلاع عن معصيته أثنوه ومنعوه عن فعل الخير وإرادة التوبة، بل ربما هددوه بفضحه وهتك ستره وإظهار الأعمال التي كان يقوم بها معهم، فكم تردد ضعيف العزم عن التوبة بسبب أصدقاء السوء! ومن الشجاعة والخوف من الله تعالى أن يتجاوز كل تلك الحواجز، من قبل أن يأتي الموت فجأة فيقول يوم القيامة: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا*لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} (28-29) سورة الفرقان.

أيها المسلمون: إن المصر على معصية ربه معرَّض للخسران والهلاك، لأن هذا أمن من مكر الله تعالى، فإنه من خاف الله تعالى ترك الذنوب صغيرها وكبيرها، ومن أمن مكر الله تهاون بالمعاصي، ولهذا يقول الله: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (99) سورة الأعراف ، والتهاون بالصغائر أمره خطير وشره مستطير؛ لأن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار"، فالصغيرة تنقلب كبيرة مع الإصرار عليها.

أيها الموفق: اعلم أن من عقوبات الإصرار على المعاصي:

موت القلب وقسوته، فلا تجده يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه. فإذا "استمر على الذنوب وأصر عليها خيف عليه أن يرين على قلبه فيخرجه عن الإسلام بالكلية، ومن هنا أشتد خوف السلف كما قال بعضهم: أنتم تخافون الذنوب وأنا أخاف الكفر"3

ومن ذلك: أن المصر على ذنبه في حرب مع الله، ألا ترى أن الله تعالى جعل المتعامل بالربا محارباً لله ورسوله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} (278-279) سورة البقرة.

 ومن عقوباتها: الوحشة التي يجدها العبد بينه وبين الله وبينه وبين الخلق، "فان المسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن الناس ظناً بربه أطوعهم له، كما قال الحسن البصري: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل، فكيف يحسن الظن بربه من هو شارد عنه، حال مرتحل في سخطه وما يغضبه! متعرض للعنته، قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه، وكيف يحسن الظن به من بارزه بالمحاربة!"4

نسأل الله تعالى أن يتوب علينا جميعاً إنه هو التواب الرحيم، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، عباد الله توبوا إلى ربكم واستغفروه إنه كان تواباً رحيماً.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

عباد الله:

ومن عقوبات الإصرار على المعاصي: فوات السعادة والطمأنينة والراحة التي يسعى إليها كل مخلوق، فإن الذنوب نار تحرق جوف صاحبها، وتظلم وجهه، وإنْ ظهر العاصي بثوب حسن وهيئة جيدة إلا أنه يحصل له من الضيق والضنك ما لا يجهله من سمع أخبار عصاة الأغنياء، فإن كان المصر على المعاصي فقيراً ازداد جحيماً إلى فقره. فكما أن الطاعة تلين القلوب وتضفي على صاحبها السعادة، فكذلك الذنوب سبب في شقاء الإنسان وتعاسته.

ومن عقوباتها: أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة.. وبالجملة أنها تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله. وما محيت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (96) سورة الأعراف، وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} (16) سورة الجن، وأن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وفي الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته)5 وإن الله جعل الروح والفرح في الرضاء واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط..

أيها المسلمون: إذا عرف أحدنا الداء والمرض وجب عليه معرفة العلاج، فإذا كانت تلكم بعض عقوبات الإصرار على المعاصي، فيا ترى ما الدواء الشافي في الإقلاع عن المعاصي، وترك الإصرار عليها؟ إن هناك وسائلَ عديدة لعلاج هذا الداء العضال، فمن ذلك:

1.  تذكر الموت: فإن المسلم متى أكثر من ذكر الموت هانت عليه الدنيا التي لأجلها يعصي ولأجلها يظلم ويطغى، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) يعني الموت6. إن السبب في الإصرار على المعصية هو نسيان اللحظة الأخيرة من الدنيا التي يصير إليها العباد، ووالله ما ذكر عبد الموت إلا أحدث له ذلك خوفاً من الله تعالى، وبعداً عن السيئات والمعاصي.

2.  أن يعلم المصر على المعصية أنه في غضب الله ما دام على ذلك، فإن تاب واستغفر فرح ربه أشد الفرح بتوبته كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذا الذي يعلم أنه في غضب الله تعالى ومقته وسخطه ثم يصر على ما هو عليه من أسباب الغضب واللعنة؟!

3.  أن يخشى المصر على المعاصي من سوء الخاتمة، لأن الموت يأتي بغتة، ولربما جاءه وهو على حال سيئة، نعوذ بالله من ذلك، ومن حكمة الله تعالى أن جعل الموت غيباً لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا أحد غيره هو -سبحانه وتعالى-، فأوجب ذلك للعاقل ملازمة التوبة والإقلاع عن المعاصي صغيرها وكبيرها، وكثرة الاستغفار..

4.  أن يعلم بعض المغرورين: أن الاستغفار مع الإصرار على الصغائر لا ينفع صاحبه، ففرق بين من يعصي ثم يقلع عن الذنب ثم يعاوده بعد فترة ويتوب منه مرات ومرات، ولكن لغلبة النفس والشيطان أحياناً يوقعه في الذنب، وبين من يلازم الذنب ولا يفارقه ولا يندم على فعله، ثم يظن أنه باستغفاره قد أدى ما عليه، وتاب إلى الله! وهذا كله في حق الصغائر، فكيف بكبائر الذنوب مثل عقوق الوالدين والزنا وشرب الخمر وأكل الربا، وغيرها من كبائر الذنوب؟ ولهذا لا بد للكبيرة من توبة مستقلة، فلا ينفع معها استغفار فقط مع البقاء عليها والإصرار على فعلها، بل لا بد لها من توبة خاصة خالصة..

5.  أن يتصف المسلم بصفات المتقين المذكورة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (135) سورة آل عمران.

نسأل الله تعالى أن يجنبنا الفتن والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن يعيننا على طاعته وحسن عبادته، اللهم أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، يا حي يا قيوم.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1 رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي وغيرهم، وهو حديث حسن، كما في المشكاة للألباني: (2341).

2 الأسباب نقلت -بتصرف- عن منتديات الجزيرة.

3 الجواب الكافي لابن القيم،ص (48).

4 المصدر السابق ص(14).

5 رواه ابن ماجه، وابن أبي شيبة، وغيرهما، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.

6 رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح، وهاذم بالذال، أي قاطع.