لماذا الصيام امتناع عن الطعام والشراب

لماذا الصيام امتناع عن الطعام والشراب

 

الحمد لله الذي فضل شهر رمضان على سائر الشهور، وجعله موسماً للمنافسة في الخيرات، والتجارة التي لن تبور.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم الرحمن، الذي خصَّ شهر رمضان بإنزال القرآن، هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان.

وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله، نبينا محمد الذي لا خير إلا وقد دلّ الأمة عليه وسبقها إليه، ولا شر إلا حذرها منه وكان أبعدها عنه, ورضي الله على آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحابته الأئمة المهديين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

لقد شرع الله الصيام لحكم عظيمة كثيرة، استوجبت أن يكون فريضة من فرائض الإسلام، وركناً من أركانه، فكم فيه من المنافع الجمة، وكم له من الآثار المباركة.

فالصيام عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه، بترك محبوباته ومشتهياته، طاعة لربه وإيثاراً لمحبته؛ فيقدم ما يحبه خالقه ومولاه على ما تحبه نفسه وتهواه، فيظهر بذلك صدق إيمانه، وكمال عبوديته لله، وخالص محبته، وعظيم طمعه ورجائه فيما وعد الله به أهل طاعته، من الرحمة والرضوان، والمغفرة والإحسان، والأجر العظيم والنعيم المقيم في الجنان.

وفي الصيام ممارسة ضبط النفس والسيطرة عليها والتحكم فيها، والأخذ بزمامها إلى ما فيه خيرها وسعادتها وفلاحها في العاجل والآجل، حيث يُصبِّر المرء نفسه على فعل الطاعات، وترك الشهوات.

وفي الجوع والظمأ وهجر الشهوات -خصوصاً على وجه العبودية لله- ما يكسر من حدتها ويكبح من جماحها، ويكون عوناً للمرء عليها ويجعلها تستعد لطلب وتحصيل ما فيه غاية سعادتها، وقبول ما تزكو به في حياتها الأبدية, قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 9-10]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 40-41].

والصيام يذكر العبد بعظيم نعم الله عليه وجزيل إحسانه إليه؛ فإنه إذا جاع وعطش وهجر شهوته ذكر الأكباد الجائعة والأنفس المحرومة، فكان ذلك من دواعي حمده لربه على نعمته وشكره له على جوده وكرمه، وكان ذلك من أسباب رقة قلبه؛ مما يجعله يعطف على المساكين ويغيث الملهوفين فيواسيهم ويجود عليهم, وذلك من أسباب حفظ النعم وزيادتها، واندفاع النقم والسلامة من آفاتها.

فالصيام من أعظم أسباب تطهير النفوس من أدرانها، وتزكيتها بتهذيب أخلاقها، وتنقيتها من عيوبها، مع ما فيه من إصلاح القلوب وترقيقها، وزرع التقوى فيها وتقوية خشيتها من خالقها وباريها؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183]، فبين سبحانه أن الحكمة من فرض الصيام هي تحقيق التقوى.

والتقوى كلمة جامعة لكل خصال الخير من فعل الطاعات، وترك المعاصي والسيئات، والحذر من مزالق الشهوات، واتقاء الشبهات.

أخي المسلم الكريم:

للصوم أثر واضح في الإعانة على ذلك، فإنه يلين القلب ويذكره بالله، ويقطع عنه الشواغل التي تصده عن الخير أو تجره إلى الشر، ويحبب إلى الصائم الإحسان وبذل المعروف, ولذا يشاهد تسابق معظم الصائمين إلى الخيرات، وتجافيهم عن المحرمات، وبعدهم عن الشبهات، وتنافسهم في جليل القربات1.

وبترك الطعام والشراب كسر النفس والحد من كبريائها حتى تخضع للحق وتلين للخلق، فإن الشبع والري ومباشرة النساء يحمل كل منها على الأشَر والبطر والعلو والتكبر على الخلق وعن الحق، وذلك أن النفس عند احتياجها لهذه الأمور تشتغل بتحصيلها، فإذا تمكَّنَت منها رأت أنها ظفرت بمطلوبها فيحصل لها من الفرح المذموم والبطر ما يكون سبباً لهلاكها، والمعصوم من عصمه الله تعالى.

وتضيق مجاري الدم بسبب الجوع والعطش فتضيق مجارى الشيطان من البدن فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم2, فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سَوْرَة الشهوة والغضب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ))3. فجعل الصوم وجاء لشهوة النكاح وكسراً لحدتها.

ومن حكم الصيام: ما يترتب عليه من الفوائد الصحية التي تحصل بتقليل الطعام وإراحة جهاز الهضم لمدة معينة، ومنع ترسب بعض الرطوبات والفضلات الضارة بالجسم وغير ذلك.

فما أعظم حكمة الله وأبلغها وما أنفع شرائعه للخلق وأصلحها!

اللهم فَقِّهْنَا في دينك، وألهمنا معرفة أسرار شريعتك، وأصلح لنا شؤون ديننا ودنيانا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين4.


1 تذكرة الصوام بشيء من فضائل الصيام والقيام وما يتعلق بهما من أحكام -عبد الله بن صالح القصير- (1/ 9).

2 رواه البخاري -1898- (7/180), ومسلم -4040- (11/150).

3 رواه البخاري -1772- (6/476), ومسلم -2485- (7/173).

4 مجالس شهر رمضان ل(ابن عثيمين) – (1/81), تذكرة الصوام بشيء من فضائل الصيام والقيام وما يتعلق بهما من أحكام -عبد الله بن صالح القصير- (1/ 9).