إصلاح السرائر

إصلاح السرائر

الحمد لله الذي سهل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلاً، وأوضح لهم طرق الهداية وجعل اتباع الرسول عليها دليلاً، واتخذهم عبيداً له فأقروا له بالعبودية ولم يتخذوا من دونه وكيلاً، وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه لما رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، ولا إله إلا الله الذي لا تتصور عظمته الأوهام، والله أكبر ذو الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام، مدهر الدهر، مدبر الأمر، ومقدر اليوم والليلة والسنة والنهار، والعالي فوق كل شيء بالسلطان والقهر والجلال، وكل معبود دونه باطل، وأنه وحده دون غيره رب الأواخر والأوائل، كيف يكون غير الله معبود سواه وكل من تحت عرشه يرجوه ويخشاه، أليست الشمس والقمر والنجوم مسخرات؟!، أليست السموات والأرض وما فيها بحكمته مدبرات؟!، أليس الهلال بتسخيره على أقطارها دائرات؟!، أليست العقول في فلوات تيه معرفته حائرات؟! سبحانه سبحانه ما أعظم شأنه، سبحانَه سبحانه ما أدوم سلطانه.

اطلع على سرائر عبادة فعرف ما فيها من حسنات وسيئات، فجازى بالأولى الدرجات، وبالأخيرة الدركات، وعفا عمن شاء فنعم واهب العطيات، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأزكاهم في سمائه وأرضه، وأطهرهم قلباً باطنه وظاهره، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وتجنبوا أسباب سخط الجبار فإن أجسامكم على النار لا تقوى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (سورة آل عمران:102).

أيها المسلمون: اعلموا أن منْ أصلح سريرته أصلح الله – تعالى – علانيته؛ لأن فساد السريرة أول درجات النفاق – والعياذ بالله -، والواجب على العاقل أن يهتم بإصلاح سريرته، والقيام بحراسة قلبه عند إقباله وإدباره، وحركته وسكونه؛ لأن تكدر الأوقات، وتنغص اللذات؛ لا يكون إلا عند فساده، وقد أحسن منْ قال:

إذا ما خلوتَ الدهرَ يوماً فلا تقـُلْ خلوتُ، ولكنْ قلْ عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ اللهَ يغفلُ ساعةً ولا أنَّ ما يخفى عليه يغيبُ
ألمْ ترَ أنَّ اليومَ أسرعُ ذاهب وأنَّ غداً للناظرينَ قريبُ

فعلى العاقل أن لا ينسى تعاهد قلبه بترك ورود السبب الذي يورث القساوة له عليه؛ لأن بصلاح الملك تصلح الجنود، وبفساده تفسد الجنود، فإذا اهتم بإحدى الخصلتين تجنب أقربهما من هواه، وتوخى أبعدهما من الردى.

أيها المسلمون عباد الله: لقد ظهرت في هذه الأيام بعض المظاهر التي تشير إلى خراب السرائر، والنفوس، والقلوب.

ومظاهر عدم الاهتمام بإصلاح القلب ما يتعلق بحق الله – تعالى – كعدم الخشوع في الصلاة، وقلة ذكر الله، وعدم مراقبة الله – تعالى – في كل الحركات، إذ أنه لا يطلع على ما في سريرتك إلا الله وحده، فكل مظهر من مظاهر خراب الباطن هو قلة المراقبة لله وحده، واستشعار أنه تعالى يحول بين المرء وقلبه، وأنه تعالى إليه المصير.

وهناك مظاهر تتعلق بحق المخلوق، فمن هذه المظاهر:

الطمع: وهو عكس القناعة، وهو عدم الرضا بقسمة الله – تعالى -، والرغبة في الحصول على ما في يد الآخرين دون بذل أي مجهود من ناحيته، فالإنسان مريض القلب، والنفس يشتهي النعمة التي في يد أخيه مع العلم أن في يده مثلها، ولكنه الطمع، فيطمع الإنسان في شيء ليس فيه مطمع، ويشعر دائماً أنه في احتياج لهذا الشيء وهو ليس من حقه.

ولماذا الطمع وقد حذرنا رسول الله  منه عندما جاءه رجل وقال له: أوصني يا رسول الله، فقال: عليك باليأس مما في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاتك وأنت مودع، وإياك وما تعتذر منه1

لا تخضعن لمخلوق على طمع فإن ذاك مضر منك بالدين
واسترزق الله مما في خزائنه فإنما هي بين الكاف والنون

وقد كان النبي  يتعوذ من النفس التي لا تشبع في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو  قال كان رسول الله  يقول: اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها2

فالنفس التي لا تشبع هي بالطبع مريضة يجب علاجها، وتزكيتها، وإصلاحها، حتى تهدأ، وترضى برزق الله وقضائه.3

والإنسان الذي يطمع لا يملأ نفسه إلا التراب، والمخزي حقا أنك تجد الإنسان ميسور الحال وقد رزقه الله من حيث لا يحتسب؛ ومع ذلك لا يقنع، وتجده متلهفاً للمزيد، وقد أخبر عن ذلك من لا ينطق عن الهوى  كما في الحديث عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب4

أيها الناس: ما من معصية يقترفها العبد إلا وللطمع فيها نصيب، نسأل الله أن يجنبنا الطمع.

ومن مظاهر فساد القلوب أيضاً الحسد، وهو تمني زوال النعمة عن الغير، وهذه الصفة من صفات اليهود قال الله عنهم: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (سورة النساء:54).

“قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه: أحدها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره.

وثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة؟

وثالثها: أنه ضاد فعل الله، أي أن فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله.

ورابعها: أنه خذل أولياء الله، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم.

وخامسها: أنه أعان عدوه إبليس.

وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولاينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا ًوغماً، ولا ينال في الآخرة إلا خزياً واحتراقاً، ولا ينال من الله إلا بعداً ومقتاً.”5

باعد الله بيننا وبين سوء السريرة، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، والحمد لله رب العالمين. وأستغفر الله العظيم من كل ذنب إنه غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وحزبه، أما بعد:

أيها الناس: جاء في قول الله – تعالى -: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (سورة النحل:90)، عن ابن عيينة أنه كان يقول في تأويل ذلك: إن معنى العدل في هذا الموضع استواء السريرة والعلانية من كلّ عامل لله عملاً، وأن معنى الإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، وإن الفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته.

أسلم سعد بن معاذ وعمره ثلاثون سنة، ومات وعمره ست وثلاثون سنة، مع موته اهتز له عرش الرحمن، يا ترى ماذا عمل في الإسلام من عمل بلغ في ست سنين أن اهتز له عرش الرحمن؟! ونحن يعمل منا العامل عمره كله في الإسلام لا يتجاوز الحزن في حقه حدود أهله وذويه، وربما حمدوا الله على ذهابه.

إنما بلغ سعد هذه المنزلة بشيء زائد على كثير من الناس ألا وهو بشيء في سريرته، لا يعلمها إلا الله تعالى.

روى عن مالك بن أنس أن رجلاً سأله عن مسألة فقال: لا أدري! فقال: سافرت البلدان إليك، فقال: ارجع إلى بلدك وقل: سألت مالكاً فقال: لا أدري.

فانظر إلى دين هذا الشخص، وعقله كيف استراح من الكلفة، وسلم عند الله ​​​​​​​ ، ثم إن كان المقصود الجاه عندهم فقلوبهم بيد غيره. يقول ابن الجوزي: والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبوا عنه، وقدره في النفوس ليس بذلك، ورأيت من يلبس فاخر الثياب، وليس له كبير نفل ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته! فتدبرت السبب فوجدته السريرة، كما روي عن أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير صلاة وصوم، وإنما كانت له سريرة.

فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر.6

فيا من تلبس الجديد، وتركب المركب الحسن، وتخدمه العبيد؛ إنما ينظر الله – تعالى – إلى القلب، قال رسول الله  : إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأشار بأصابعه إلى صدره.7

يا من تزين ظاهرك بالزينة واللباس، زين قلبك وسريرتك وباطنك بتقوى الله، وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ (سورة الأعراف:26).

أيها المسلمون: إن داعي الموت لا يقلع، ومن مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع، فعليك بتقوى الله العظيم، وليكن أولى الأمور بنا شكر الله، وحسن النية في السر والعلانية، فإن الشكور يزداد، والتقوى خير زاد.

ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخراً وعند الله للأتقى مزيد
وما لا بد أن يأتي قريب ولكن الذي يمضي بعيد

فعليكم بتقوى الله فإنه يرى من باطنكم مثل الذي يرى من ظاهركم. اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك قلبا سليماً، ولساناً صادقاً، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نعوذ بك من شر نفوسنا، ومن شر الشيطان وشركه، اللهم إنا نسألك نفساًً بك مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، ومن عين لا تدمع.

اللهم لك الحمد ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم طهرنا بالثلج والماء والبرد، اللهم نقنا من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.


1 رواه الحاكم (7928) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في التلخيص، وضعفه الألباني (1956).

2 رواه مسلم برقم (2722).

3 طهارة النفس وأمراض القلوب، تأليف: نبيل عطوه، ص (14) بتصرف.

4 رواه البخاري (6072) ومسلم‌ (1048)، واللفظ للبخاري.

5 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي  (20 /240).

6 صيد الخاطر لابن الجوزي (1 /206).

7 رواه مسلم في الصحيح (2564).