الصوم لي وأنا أجزي به

الصوم لي وأنا أجزي به

 

الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وبصر بالحق أهل العمى، يرى ويسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، في السماء ملكه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر عظمته، وفي الجنة رحمته، وفي النار سطوته، وفي كل شيء آيته وحكمته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكمل الله به عقد النبوة، فطوبى لمن والاه وتولاه، بعثه الله على حين فترة من الرسل، فبلغ البلاغ المبين، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين من ربه، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار، ما تعاقب الليل والنهار، وما تصافح المؤمنون الأخيار، وعلى المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم القرار.

أما بعد:

لقد أظلنا شهر عظيم، ونزل بساحتنا ضيف كريم، فيه الفضائل العديدة، والمزايا الفريدة، فيه الرحمة، والمغفرة، والعتق من النار، فيه أنزل القرآن، وتفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفد مردة الشياطين، ولمن صامه إيماناً واحتساباً مغفرة ما تقدم من الآثام.

لقد اختص الله الصيام وأضافه إلى نفسه الكريمة حيث قال عز وجل في الحديث القدسي: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))1. وهذا جزء من فضائل الصيام، ولذلك كان لا بد من التطرق إلى ذكر بعض مزايا وخصائص الصيام؛ كما جاء في القرآن، وفي سنة النبي العدنان، فإليك بعض تلك المزايا والخصائص؛ كما جاء في حديث: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)) وفي غيره:

نص الحديث:

 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلُّ عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحةٌ عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك))2.

الشـرح :

هذا حديث جزء منه حديث نبوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((كل عمل ابن آدم… ضعف)) والباقي منه حديث قدسي أضافه النبي إلى ربه عز وجل: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)) إلى آخره.

قوله: ((كل عمل ابن آدم يضاعف)) المقصود بالعمل الذي يضاعفه الله لابن آدم هو العمل الصالح، – الحسنات – والمضاعفة لتلك الأعمال الصالحة إلى أن تكون الحسنة الواحدة: ((بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)) إلى ما يشاء الله عز وجل، ونظير هذا في كتاب الله قوله عز وجل: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 261]. وقال عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}[الأنعام: 160].

وأما العمل الفاسد – السيئات – فإن الله لا يضاعفه لصاحبه، وإنما يحصيه له ثم يوفيه إياه، قال عز وجل: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الأنعام: 160]. ولكن السيئة قد تعظم أحياناً بسبب شرف الزمان كرمضان، أو المكان كمكة والمدينة.

وقد جاء الدليل من السنة على أن الله يضاعف الحسنات، ويحصي السيئات ولا يضاعفها؛ رحمة منه بعباده، فعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما يرْويه عن ربه تبارك وتعالى قال: ((إنَّ اللهَ كتَب الحسنات والسَّيئات ثم بيَّن: فمن هَمَّ بحسنة فلمْ يعْملها كتبها اللهُ عنْده حسنة كاملةً، وإنْ همَّ بها فعملها كَتَبَها اللهُ عنْده عشْر حسنات إلى سبعِ مئة ضعْفٍ إلى أضْعافٍ كثيرةٍ، وإن هَمَّ بسيِّئةٍ فلمْ يعْملْها كتبها اللهُ عنْده حسنةً كاملةً، وإن هَمَّ بها فعملها كتبها اللهُ سيئّةً واحدة))3. وهذا من كمال عدله، ورحمته بعباده، وجزيل إنعامه.

هذه المضاعفة للإعمال الصالحة إلى عدد معين، ولكن هناك عمل صالح لم يعين الله له أجراً، وإنما أضافه إليه، وجعل جزاء عامله أنه يعطيه من غير عد ولا حساب: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي))  وهو سبحانه كريم جواد، فلا شك أنه سيعطي الصائمين أجرهم بغير حساب، كما أعطى الصابرين قال عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10]. وهنا سر عجيب في كون الصابر أجره بغير حساب، وكذا الصائم أجره على الله من غير تحديد، وهو أن الصوم نوع من الصبر، فهو صبر على ترك الأكل والشرب والجماع، فاتفق أن يكون الصيام من الصبر الذي تجد فيه كثير من النفوس مشقة في ترك مألوفاتها، فلهذا كان جزاؤه من جنس جزاء الصبر.. بل إنه سبحانه قد خص الصائمين بباب من أبواب الجنة لا يدخل منه غيرهم؛ فعن  سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق، فلم يدخل منه أحد))4. وفي رواية: ((من دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً))5.

ثم بين سبحانه سبب مجازاته للصائمين بغير حساب، فقال: ((يدع شهوته وطعامه من أجلي))  وذلك لأنهم حققوا الإخلاص في عبادتهم، فتركوا الشهوات والملذات من أجله تعالى، وحققوا جميع أنواع الصبر، صبر على ألم الجوع والعطش، وصبر على طاعة الله بلزوم ذلك، وصبر عن معصيته بترك الشهوات والملذات، وذلك كله من أجل الله.

قوله: ((للصائم فرحتان)) والفرح هو ما يجده الصائم في قلبه من الراحة والسرور والانبساط.

أولى هاتين الفرحتين: ((فرحة عند فطره)) وفرحته عند فطره تحصل بأمرين:

الأول: بما أنعم الله عليه بعدم أخذ روحه قبل مجيء رمضان، وإنما أبقاه ليصومه، وليفوز بالأجر العظيم من الكريم المنان، وكذلك أبقاه حتى أكمل صوم ذلك اليوم، وكذلك فرح بتوفيق الله له بعمل الطاعة.

الثاني: فرحه بما أباحه الله له من تناول الطعام والشراب وممارسة الجماع مع أهله، بعد ما كان كل ذلك محظوراً عليه.

والفرحة الثانية: ((وفرحة عند لقاء ربه)) وذلك بما يجده مدخراً له من الأجر العظيم، الذي لا حد له، في وقت أحوج ما يكون فيه إلى حسنة واحدة، في {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء: 88-89]، وكذلك فرحه بلقاء ربه، وفوزه بجنته، والنظر إلى وجه الله الكريم -نسال الله ذلك -، وهذا أعظم الفرح على الإطلاق.

قوله: ((ولخلوف)) الخلوف: هي الرائحة الكريهة المنبعثة من المعدة بسبب خلوها من الطعام.

((فيه)) أي فمه.

قوله: ((أطيب)) صيغة أفعل، وهي من صيغ المبالغة. ((عند الله من ريح المسك)) أي ريح فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عندكم. وقيل: المراد أن الله يجزيه في الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك. وقيل: المراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك، ورجح النووي أن معنى ذلك أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المندوب إليه في الجمع، ومجالس الذكر، وهو حمل معنى الطيب على القبول والرضا6.

فوائد الحديث:

في هذا الحديث الشريف فوائد كثيرة جداً، ولكننا سنذكر ما تيسر، فنقول وبالله التوفيق:

1-  رحمة الله بعباده حيث ضاعف لهم الحسنة إلى عشر أمثالها، وأما السيئات فلا يضاعفها، وإنما السيئة بسيئة واحدة.

2- اختص الله الصيام وأضافه إليه تشريفاً له، دون سائر العبادات ((إلا الصوم فإنه لي)) وذلك لأن الصوم سرّ بين العبد والمعبود، لا يطلع عليه أحد إلا الواحد الأحد.

3- أن الصيام جزاءه غير محدد بعدد معين، وإنما يوفى الصائم أجره بغير حساب، بخلاف بقية العبادات، ((وأنا أجزي به))، والله تعالى كريم جَواد، والكريم الجواد يعطي على قدر كرمه وجوده، والصوم نظير الصبر، بل إن رمضان أطلق عليه في بعض الآثار أنه شهر الصبر، وذلك لأن الصوم يتحقق فيه جميع أنواع الصبر، صبر على ألم الجوع والعطش، وصبر على طاعة الله بلزوم ذلك، وصبر عن معصيته، فكان جزاء الصابرين: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10].

4-  أن للصائم فرحتين، فرحةٌ عند فطره، وذلك لقيامه بطاعة خالقه، وإكمال صوم يومه، وتناوله ما أباحه الله له من الطعام والشراب، وهذا الذي ينبغي أن يفرح به، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس: 58]. وفرحة عند لقاء ربه، وذلك بما يجد من الأجر الوفير، والثواب العظيم الذي لا حد له، بالفوز بدخول الجنة من الباب الذي اختص به الصائمون (الريان)، وأعظم منه لقاء رب العالمين، والنظر إلى وجهه الكريم.

5-  أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.. فهذا التغير لما كان ناشئاً عن طاعة الله كان عند الله كذلك، وإن كان ذلك مكروهاً عند الناس.

فضائل عامة للصيام:

1- أن الصوم كفارة للذنوب، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة))7. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر))8.

2-  أن الصوم جُنَّة ووقاية للصائم من اللغو والرفث وسائر الآثام، ومن ثم الوقاية من النار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني امرؤٌ صائم))9. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام جُنَّة يستجن بها العبد من النار))10. والجُنَّة هي الوقاية.

3-  أن الصيام يشفع لصاحبه؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه)) قال: ((فيشفعان))11.

 

بعض فضائل شهر رمضان:

 لقد خص الله شهر رمضان على غيره من الشهور بفضائل عديدة، وإليك بعضاً منها على سبيل الإجمال:

1-      أن من صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))12 . ومعنى "إيماناً" أي إيماناً بأن الله شرعه، وتصديقاً بأن الله رتب عليه الأجر العظيم. "واحتساباً" أي احتساباً للأجر الذي أعده الله للصائمين.

2-      سماه الله شهر القرآن، فقال رب العزة والجلال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: 185].

3-      شهر الصبر، فإن الصبر لا يتجلى في شيء من العبادات كتجليه في الصوم؛ وذلك أن المسلم الصائم يكف نفسه ويمنعها عن تناول جميع المفطرات.

4-             إذا دخلت أول ليلة منه فتحت أبواب الجنان.

5-             وتغلق فيه أبواب النيران.

6-      تُسلسل وتُكبَّل فيه الشياطين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلست الشياطين))13. وفي رواية: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة))14 .

7-      فيه ليلة من وفق لها فكأنه عبد الله أكثر من ألف شهر، وهي ليلة القدر، قال تعالى: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: 3].

8-      الدعاء مستجاب في رمضان؛ عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله عتقاء في كل يوم وليلة لكل عبد منهم دعوة مستجابة))15.

إنه لحري بي وبك – أيها المسلم وأيتها المسلمة – بعد أن سمعنا وقرأنا هذه الفضائل أن نستغل شهر رمضان فيما يرضي الرحمن، وأن نكثر من نوافل الصلاة، والصدقة، وأن نقرأ القرآن، وأن نذكر الديان، وأن نسبحه بالعشي والإبكار، وأن نطعم الطعام، وأن نصلي بالليل والناس نيام، وأن نحذر مما يغضب الرحمن؛ لندخل الجنة – إن شاء الله – بسلام.

اللهم أعنا على صيام رمضان وقيامه، واجعلنا ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


1 رواه البخاري (5583).

2 رواه مسلم (1151).

3 رواه البخاري (6126) ومسلم (131).

4 رواه البخاري (1797)، ومسلم (1152).

5 رواه النسائي (2236)،  وابن ماجه (1640)، وابن خزيمة (1902)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (1329).

6 تنقيح القول الحثيث في شرح لباب الحديث (ص: 64).

7 رواه البخاري (502) ومسلم (144).

8 رواه مسلم (233). 

9 رواه البخاري (1805).

10 رواه أحمد (14669) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3867).

11 رواه أحمد بن حنبل في مسنده (6626)، والحاكم في مستدركه (2036)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/181، وقال: رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، ورجال الطبراني رجال الصحيح.

12 أخرجه البخاري (38) ومسلم (760).

13 رواه البخاري (1800)، ومسلم (1079).

14 رواه الترمذي (682)، وابن ماجة (1642) وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم ( 549) وصحيح ابن ماجه رقم (1642).

15 أحمد (7450)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".