أحكام التعزية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن تعزية أقارب الميت مشروعة، وتكون بسؤال الله أن يعظم لهم الأجر فيما أصابهم، ويحثهم على الصبر، وتقبل ما قضى الله بالرضا والتسليم، والدعاء للميت بالرحمة والمغفرة.
حكم التعزية:
يستحب تعزية أهل الميت، قال ابن قدامة رحمه الله: "ويستحب تعزية أهل الميت لا نعلم في هذه المسألة خلافاً"1، ووردت أحاديث تدل على استحباب التعزية، ولكن فيها ضعف، منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ((من عزى مصاباً فله مثل أجره))2، وحديث عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله علي وسلم: ((ما من مؤمن يُعزِّي أخاه بمصيبة إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة))3.
وقال ابن قدامة رحمه الله: "ويستحب تعزية جميع أهل المصيبة كبارهم وصغارهم، ويخص خيارهم والمنظور إليه من بينهم ليستن به غيره، وذا الضعف منهم عن تحمل المصيبة لحاجته إليها، ولا يعزي الرجل الأجنبي شواب النساء مخافة الفتنة"4.
لفظ التعزية:
ليس في ألفاظ التعزية شيء محدد، وقال بعض العلماء: يقول المعزي للمسلم: "أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك"، وإن عزى مسلماً بكافر يقول: "أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك" ويمسك عن الدعاء للميت، لأن الدعاء والاستغفار له منهي عنه، وإن عزى كافراً بمسلم قال: "أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك"، وحرم بعض العلماء تعزية الكافر؛ لأن فيها تعظيماً للكافر.
أما المعزَّى فيقول: "استجاب الله دعاءك، ورحمنا وإياك"5.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً لها في الموت، فقال: للرسول: ((ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب)).
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "فينبغي التعزية بهذه الألفاظ الثابتة في الصحيح ولا يعدل عنها إلى غيرها"6.
الجلوس للتعزية:
لا ينبغي الجلوس للعزاء ولا الإعلان عن ذلك كما يفعل بعض الناس اليوم، لأن ذلك مخالف لما كان عليه سلف الأمة، ولما في ذلك من استدامة الحزن.
وأما ما يفعله بعض الناس اليوم من أن أهل البيت يهيئون مكاناً لاجتماع الناس عندهم، ويصنعون الطعام، ويستأجرون المقرئين لتلاوة القرآن، ويتحملون في ذلك تكاليف مالية؛ فهذا من المآتم المحرمة المبتدعة7؛ لما روى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله؛ قال: (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة)8.
قال الطرطوشي: "فأما المآتم؛ فممنوعة بإجماع العلماء، والمأتم هو الاجتماع على المصيبة، وهو بدعة منكرة، لم ينقل فيه شيء؛ وكذا ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والرابع والسابع والشهر والسنة، وحرم الأكل منه" انتهى9.
إهداء الطعام لأهل الميت:
يستحب أن يعد لأهل الميت طعاماً ويبعث به إليهم، لحديث عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قُتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم))10. ولأن في هذا إعانة لهم، وجبراً لقلوبهم، فإنهم ربما اشتغلوا بصيبتهم التي نزلت بهم.
تحريم النياحة والندب:
النياحة: هي رفع الصوت بالندب، والندب هو: هو تعداد محاسن الميت، وما يلقون بفقده بلفظ النداء، مثل قولهم: واجبلاه، وسنداه، وانقطاع ظهراه إلى غيرها من الألفاظ.
فالنياحة والندب على الميت محرمان وكذلك شق الجيوب ولطم الخدود، وحلق الشعر، والأدلة على ذلك كثيرة، فعن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من نيح عليه يعذب بما نيح عليه))11، وفي صحيح مسلم: ((الميت يعذب في قبره بما نيح عليه))، وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب))12.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بريء من الصالقة والحالقة والشاقة)13 متفق عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية))14.
أما البكاء الذي لا يصحبه نياحة ولا ندب، أو الحزن على الميت فهذا أمر جائز ولا يستطيع الإنسان أن يمنع نفسه منه، وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم وحزن على موت ابنه إبراهيم، فعن أنس رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف -وكان ظئراً15 لإبراهيم عليه السلام- فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((يا ابن عوف؟ إنها رحمة)) ثم أتبعها بأخرى فقال: ((إن العين لتدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما نرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))16.
ما ينبغي للمصاب:
ينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى ويتعزى بعزائه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويرضى بما قدره الله عليه، ويستبشر بما وعده ربه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}[البقرة: 155- 156].
ويسن له أن يسترجع، فيقول: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، ويقول: ((اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها))17.
ثواب الصبر على المصيبة:
إذا نزلت مصيبة بالمسلم فصبر عليها فله أجر عظيم من الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155-157]، وفي الصبر على موت الولد أجر كبير، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار، إلا تحلَّة القسم)) يشير إلى قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}[مريم: 71]، وأخرج البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن من جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة)).
وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ولد العبد، قال الله -تعالى- لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك وسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه: بيت الحمد))18.
نسأل الله أن يوفقنا للخير أينما كنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
1 المغني (2/408).
2 رواه الترمذي وابن ماجه، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (5696)، والإرواء (765).
3 رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني في الإرواء رقم (764).
4 المغني (2/408).
5 راجع: المغني (2/408)، والفقه الإسلامي (2/1273)، والملخص الفقهي (223).
6 الدراري المضية (1/331).
7 راجع: الملخص الفقهي (صـ 224).
8 رواه أحمد، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (صـ 73).
9 حاشية الروض المربع لابن القاسم (5/130).
10 رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه، وأحمد، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1015)، وصحيح الترمذي (796).
11 متفق عليه.
12 رواه مسلم.
13 الصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، الشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة.
14 متفق عليه.
15 أي زوج مرضعته.
16 رواه البخاري وأبو داود، وأحمد وابن حبان.
17 صحيح مسلم.
18 رواه الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم (795).