المشي بالجنازة

المشي بالجنازة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فالميت إذا خلص من تغسيلة وتكفينه، فإنه يحمل ويذهب به إلى المقبرة ليدفن، وهناك أحكام ينبغي مراعاتها عند التشييع الجنازة ومن هذه الأحكام ما يلي:

حمل الجنازة:

حمل الجنازة فرض كفاية، وهو بر وطاعة وإكرام للميت، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع، وإن شاء فليدع)1، وإن كان في الحديث ضعف، إلا أن هناك أحاديث أخرى عن جماعة من الصحابة، وهي تقوي بعضها بعضاً، ولا تقصر عن إفادة مشروعية الحمل2.

سنن تشييع الجنازة

1- الإسراع بالجنازة:

ذهب الجمهور إلى أن الإسراع3 بالجنازة مستحب، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم))4.

2- اتباع الجنازة:

عن البراء رضي الله عنه قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا: باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس …إلخ)5. واتباع الجنازة سنة للرجال لما رواه البخاري ومسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)، ولم تكن النساء يخرجن مع الجنائز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتشييع الجنائز خاص بالرجال6.

ومن تبع الجنازة يستحب له أن يصلي عليها، ويتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط))7.

ويقف التابع لها بعد الدفن، فيستغفر للميت، ويسأل الله له التثبيت، ويدعو له بالرحمة، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: ((استغفروا لأخيكم وسلوا له بالتثبيت فإنه الآن يسأل))8.

والمشي مع الجنازة سواء أكان أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو خلفها سواء، قال الشوكاني رحمه الله: "وأما كون المتقدم عليها والمتأخر عنها سواء فلما ثبت في "صحيح مسلم" رحمه الله وغيره: (أن الصحابة كانوا يمشون حول جنازة ابن الدحداح)، وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه وابن حبان وصححه أيضاً الحاكم وقال على شرط البخاري من حديث المغيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريباً منها عن يمينها وعن يسارها))9، ولفظ أبي داود10: ((والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمنيها ويسارها قريباً منها))، وفي لفظ لأحمد والنسائي والترمذي: ((الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها))11، وأخرج أحمد وأهل السنن والدارقطني والبيهقي وابن حبان وصححه من حديث ابن عمر: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة) وصححه ابن حبان12. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المشي أمام الجنازة أفضل، وبعضهم إلى أن المشي خلفها أفضل، والحق أن ذلك سواء ولا ينافيه رواية أنه صلى الله عليه وسلم مشى أمامها وخلفها فذلك كله سواء؛ لأن المشي مع الجنازة: إما أن يكون أمامها، أو خلفها، أو في جوانبها، وقد أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم فكل مكان من الأمكنة المذكورة هو من جملة ما أرشد إليه"13.

3- سَتر نعش المرأة:

يندب عند المالكية والشافعية والحنابلة14 ستر نعش المرأة بقُبَّة تجعل فوق ظهر النعش، تعمل من خشب أو جريد نخل أو قصب، لأنه أبلغ في الستر، قال بعضهم: أول من اتخذ له ذلك زينب بنت جحش أم المؤمنين، وقال ابن عبد البر: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من غطِّي نعشها في الإسلام، ثم زينب بنت جحش15.

4- عدم جلوس المشيعين حتى توضع الجنازة:

المستحب لمن يتبع الجنازة ألا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع)16.

وأما القيام عند مرورها فنسوخ؛ لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم -يعني في الجنازة- ثم قعد)17، وفي رواية من حديثه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس)18.

الركوب مع الجنازة:

قال الشيخ الألباني في "أحكام الجنائز" (صـ 40): "ويجوز الركوب بشرط أن يسير وراءها لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((الراكب يسير خلف الجنازة…))19.

لكن الأفضل المشي لأنه المعهود عنه صلى الله عليه وسلم ولم يرد أنه ركب معها بل قال ثوبان رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بدابة وهو مع الجنازة فأبى أن يركبها، فلما انصرف أتي بدابة فركب، فقيل له؟ فقال: ((إن الملائكة كانت تمشي فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت))20.

ولا بأس بحملها في سيارة أو على دابة، لاسيما إذا كانت المقبرة بعيدة21.

اتباع الجنازة بنار:

يحرم اتباع الجنازة بنار لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار))22. وعن أبي بردة قال: أوصى أبو موسى الأشعري حين حضره الموت فقال: (لا تتبعوني بمجمر) قالوا له: أو سمعت فيه شيئاً قال: (نعم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)23.

رفع الصوت بذكر أو قراءة أو الصياح خلف الجنازة:

ورفع الصوت بذكر أو قراءة بدعة لم يرد فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن سلف الأمة، قال قيس بن عباد: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز)24. قال الإمام النووي رحمه الله: (والمختار بل الصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة، ولا يرفع صوته بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما، بل يشتغل بالتفكر في الموت وما يتعلق به، وما يفعله جهلة القراء بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه فحرام يجب إنكاره، وكره الحسن وغيره قولهم: استغفروا لأخيكم، وسمع ابن عمر قائلاً يقول: استغفروا له غفر الله لكم، فقال: لا غفر الله لك. رواه سعيد بن منصور في سننه)25.

تحريم النياحة:

النياحة على الميت محرمة لحديث: ((من نيح عليه يعذب بما نيح عليه))26، وفي صحيح مسلم: ((الميت يعذب في قبره بما نيح عليه))، وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)27.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بريء من الصالقة والحالقة والشاقة)28 متفق عليه.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية))29.

أما البكاء الذي لا يصحبه نياحة ولا ندب، أو الحزن على الميت فهذا أمر جائز ولا يستطيع الإنسان أن يمنع نفسه منه، وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم وحزن على موت ابنه إبراهيم، فعن أنس رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف -وكان ظئراً30 لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه. ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((يا ابن عوف؟ إنها رحمة)) ثم أتبعها بأخرى، فقال: ((إن العين لتدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما نرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))31.

نسأل الله أن يرحمنا ويغفر لنا، ويجعلنا من المرحومين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه ابن ماجه، والبيهقي، والطبراني في الكبير، وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه رقم (321).

2 راجع: الدراري المضية (1/314)، ونيل الأوطار (4/113).

3 والإسراع يكون فوق المشي المعتاد، ودون الخَبَب أي العَدْو السريع.

4 متفق عليه.

5 متفق عليه.

6 الملخص الفقهي (صـ 221).

7 رواه البخاري، ومسلم نحوه.

8 رواه أبو دواد، وقال الحاكم: "إنه صحيح الإسناد"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2758).

9 مسند أحمد وصححه شعيب الأرناؤوط في تعليقاته على المسند رقم (18199).

10 وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2723).

11 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3523).

12 وصححه الألباني في مشكاة المصابيح رقم (1668).

13 الدراري المضية (1/314-316).

14 الشرح الكبير (1/418)، كشاف القناع (2/146)، ومغني المحتاج (1/359).

15 راجع: الفقه الإسلامي (2/1542).

16 متفق عليه.

17 رواه مسلم.

18 رواه أحمد وابن حبان، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح رقم (1682).

19 رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3525).

20 رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2720).

21 الملخص الفقهي (صـ 220).

22 رواه أبو داود، وقال الألباني في "تلخيص أحكام الجنائز" (صـ 38): "ضعيف يتقوى بشواهده وبآثار مرفوعة".

23 رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (1208).

24 أخرجه البيهقي في السنن (4/74).

25 مغني المحتاج (1/356).

26 متفق عليه.

27 رواه مسلم.

28 الصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، الشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة.

29 متفق عليه.

30 أي زوج مرضعته.

31 رواه البخاري وأبو داود، وأحمد وابن حبان.