اليوم الذي يشك فيه!

اليوم الذي يشك فيه!

 

الحمد لله حمداً كثيراً، والصلاة والسلام على رسول الله وسلم تسليماً مزيداً، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن صيام يوم الشك وهو اليوم الأخير من شعبان مما اختلف العلماء فيها قديماً وحديثاً.

فالمشهور في مذهب الإمام "أحمد" الذي قال كثير من أصحابه: إنه مذهبه- هو وجوب صومه من باب الظن والاحتياط1، واستدلوا على ذلك بقوله: (فاقدروا له) وفسروها بمعنى: ضيقوا على شعبان، فقدروه تسعة وعشرين يوماً.

وهذه الرواية عن الإمام  "أحمد" من المفردات، وهي مروية عن جملة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وابن عمر، وعائشة، وأسماء.

وذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة "أبو حنيفة " و"مالك" و"الشافعي" إلى أنه لا يجب صومه، ولو صامه عن رمضان لم يجزئه.

واختار هذا القول شيخ الإسلام "ابن تيمية"، وقال: المنقولات الكثيرة المستفيضة عن أحمد على هذا2.

وقال صاحب "الفروع": "لم أجد عن أحمد أنه صرح بالوجوب ولا أمر به فلا يتوجه إضافته إليه"3.

ودليل هذا القول ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((صُومُوا لِرُؤيتهِ، وأفْطِروُا لِرؤيتهِ، فَإن غُمَّ عَلَيكم فَأكْمِلوا عِدَّةَ شعْبَانَ ثَلاِثين يَوماً)) وهذا الحديث وأمثاله يبين أن معنى: (فاقدروا له) يعني قدروا حسابه بجعل شعبان ثلاثين يوماً.

وقد حقق "ابن القيم" هذا الموضوع في كتابه "الهدي"، ونصر قول الجمهور، ورد غيره، وبين أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة قول صريح، إلا عن ابن عمر الذي مذهبه الاحتياط والتشديد. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن إيجاب صوم يوم الشك لا أصل له في كلام أحمد، ولا كلام أحد من أصحابه، وإن كان بعضهم قد اعتقد أن من مذهبه إيجاب صومه. ومذهبه الصريح المنصوص عليه هو جواز فطره وجواز صومه وهو مذهب أبي حنيفة ومذهب كثير من الصحابة والتابعين. وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس بواجب ولا محرم4. والراجح هو قول الجمهور للأدلة الصحيحة التي ذكرناها.

ولكنه يستثنى من المنع من صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا كان هناك غيم أو ما أشبه ذلك حالتان:

الحالة الأولى: من كان له عادة بالصيام، كرجل اعتاد صوم يومي الاثنين والخميس، فإنه يصومها ولو كان ذلك في يوم ثلاثين؛ لأنه لم يصم ذلك من أجل أنه يوم من رمضان وإنما صامه لأنه وافق يوم الاثنين أو الخميس ومن عادته أنه يصومهما؛ ومصداق ذلك ما جاء في الحديث: ((لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ، إِلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ))5.

الحالة الثانية: من كان عليه قضاء رمضان ولم يقضه قبل ذلك جاز له ذلك؛ قال النووي رحمه الله: "قال أصحابنا: لا يصح صوم يوم الشك عن رمضان بلا خلاف… فإن صامه عن قضاء أو نذر أو كفارة أجزأه؛ لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعاً له سبب فالفرض أولى.. ولأنه إذا كان عليه قضاء يوم من رمضان, فقد تعين عليه; لأن وقت قضائه قد ضاق"6.

وأما مسألة تقديم رمضان بصوم يوم أو يومين فهو أشد حرمة من ذي قبل؛ لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصمه))، قال النووي: "فيه التصريح بالنهى عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين لمن لم يصادف عادة له أو يصله بما قبله فإن لم يصله ولا صادف عادة فهو حرام هذا هو الصحيح في مذهبنا لهذا الحديث، وللحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره: ((إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان)). فإن وصله بما قبله أو صادف عادة له فإن كانت عادته صوم يوم الاثنين ونحوه فصادفه فصامه تطوعاً بنية ذلك جاز لهذا الحديث، وسواء في النهى عندنا لمن لم يصادف عادته ولا وصله يوم الشك وغيره، فيوم الشك داخل في النهي، وفيه مذاهب للسلف فيمن صامه تطوعاً، وأوجب صومه عن رمضان أحمد وجماعة بشرط أن يكون هناك غيم، والله أعلم"7.

وقد ذكر العلماء عللاً لسبب النهي عن صيام يوم الشك وتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، فقالوا: لكراهة التقدم ثلاثة معان:

أحدها: أنه على وجه الاحتياط لرمضان، فينهى عن التقدم قبله لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه، كما نهى عن صيام يوم العيد لهذا المعنى حذراً مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم.

والمعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنفل، فإن جنس الفصل بين الفرائض والنوافل مشروع، ولهذا حرم صيام يوم العيد، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، وخصوصاً سنة الفجر قبلها، فإنه يشرع الفصل بينها وبين الفريضة، ولهذا يشرع صلاتها في البيت، والاضطجاع بعدها، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي وقد أقيمت صلاة الفجر: ((الصبح أربعاً! الصبح أربعاً!))8. من باب الاستغراب والإنكار.

وفي سنن أبي داود إن رجلاً صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما سلم قام يشفع، فوثب إليه عمر فأخذ بمنكبيه فهزه، ثم قال: اجلس فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن لصلاتهم فصل، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره، فقال: ((أصاب الله بك يا ابن الخطاب))9.

والمعنى الثالث: إنه نهى عن صومه للتقوي على صيام رمضان، فإن مواصلة الصيام قد تضعف عن صيام الفرض، فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى التقوي على صيام رمضان، وفي هذا التعليل نظر، فإنه لا يكره التقدم بأكثر من ذلك، ولا لمن صام الشهر كله، وهو أبلغ في معنى الضعف، لكن الفطر بنية التقوي لصيام رمضان حسن لمن أضعفه مواصلة الصيام؛ كما كان عبد الله بن عمرو بن العاص يسرد الفطر أحياناً، ثم يسرد الصوم ليتقوى بفطره على صومه، ومنه قول بعض الصحابة: "إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"10. وفي الحديث المرفوع: ((الطاعم الشاكر كالصائم الصابر))11.

ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام، ولهذا يقولون: هي أيام توديع للأكل، وتسمى تنحيساً واشتقاقه من الأيام النحسات..

وذكر أن أصل ذلك متلقى من النصارى، فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم، وهذا كله خطأ وجهل ممن ظنه.

وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات، وهذا هو الخسران المبين.

وأنشد لبعضهم:

إذا العشرون من شعبان ولت *** فواصل شرب ليلك بالنهار

ولا تشرب بأقداح صغار *** فإن الوقت ضاق على الصغار

وربما كره كثير منهم صيام رمضان حتى إن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه، وكان للرشيد ابن سفيه، فقال مرة:

دعاني شهر الصوم لا كان من شهر *** ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر

فلو كان يعديني الأنام بقدرة *** على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر

فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة، ومات قبل أن يدركه رمضان آخر.

وهؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من الصلاة والصيام، فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام، وكثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان، فيطول عليه ويشق على نفسه مفارقتها لمألوفها، فهو يعد الأيام والليالي ليعودوا إلى المعصية، وهؤلاء مصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، فهم هلكى، ومنهم من لا يصبر على المعاصي فهو يواقعها في رمضان.

وحكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة، وقد رويت من وجوه، وهو أنه كان مصراً على شرب الخمر، فجاء في آخر يوم من شعبان وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنوراً فحملها فألقاها في التنور فاحترقت، وكان بعد ذلك قد تاب وتعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم سواه. فمن أراد الله به خيراً حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فصار من الراشدين، ومن أراد به شر خلى بينه وبين نفسه فاتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر والفسوق والعصيان فكان من الغاوين.

الحذر الحذر من المعاصي: فكم سلبت من نعم؟! وكم جلبت من نقم؟! وكم خربت من ديار؟! وكم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديار؟! كم أخذت من العصاة بالثار؟! كم محت لهم من آثار؟!

يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه *** عواقب الذنب تخشى وهي تنتظر

فكل نفس ستجزى بالذي كسبت *** وليس للخلق من دنياهم وزر

أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان؟! ليلهم قيام، ونهارهم صيام، باع قوم من السلف جارية، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له، ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم، فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟!، لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان، ردوني عليهم.

وباع الحسن بن صالح جارية له، فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: يا أهل الدار الصلاة الصلاة، قالوا: طلع الفجر؟! قالت: أنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟! ثم جاءت الحسن، فقالت: بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني!!.

قال بعض السلف: "صم الدنيا، واجعل فطرك الموت".

الدنيا كلها شهر صيام المتقين، يصومون فيه عن الشهوات المحرمات، فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم، واستهلوا عيد فطرهم.

وقد صمت عن لذات دهري كلها *** ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، وشاهد ذلك قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا}[الأحقاف: 20]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة))12، ((ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة))13.

أنت في دار شتات *** فتأهب لشتاتك

واجعل الدنيا كيوم *** صمته عن شهواتك

وليكن فطرك عند اللـ … ـه في يوم وفاتك14

لقد أطلنا في هذه الخاتمة التي توضح حال سلفنا الصالح، ومهما يكن من أمر فإن صوم يوم الشك لا يجوز لما دلت عليه الأحاديث السابقة التي تبين حرمته، والنهي يقتضي التحريم، إلا أن يصرفه صارف صحيح صريح، ولقد أغرب من قال بوجوبه وأبعد النجعة، إذ أنه مخالف للنصوص الشرعية جملة وتفصيلاً. ولم يدل عليه دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قول صاحب، والحق الامتثال لكلام النبي صلى الله عليه وسلم وترك كلام من سواه أيا كان.

والله نسأل أن يعيننا على طاعته، وامتثال أمره واجتنابه نهيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 انظر الإنصاف للمرداوي (3/269).

2 الفتاوى الكبرى (5/ 375).

3 الفروع (3/5).

4  تيسير العلام (1/1/411). لعبد الله البسام. دار الفيحاء- دار السلام.

5  رواه البخاري ومسلم.

6 المجموع (6/400).

7 شرح النووي على مسلم(7/194-195).

8 رواه البخاري (632).

9 الحديث ضعفه العلامة الألباني في ضعيف أبي داود، رقم(215).

10 فضائل القرآن للقاسم بن سلام (250).

11 أخرجه بهذا الفظ أحمد، والدارمي، وقال حسين سليم أسد: "إسناده حسن"؛ كما في تعليقه على مسند الدارمي (2/130) رقم (2024)، وأخرجه الترمذي وابن ماجه بزيادة: (الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر)، وقال الألباني: "صحيح"؛ كما في صحيح الجامع، رقم (3942)، وفي صحيح ابن ماجه، رقم (1427).

12 رواه مسلم (2003) ((إلا أن يتوب)).

13 رواه البخاري (5495)، ومسلم (2074).

14 راجع: لطائف المعارف، صـ(158).