دفن الميت

دفن الميت

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله كرم بني آدم، أحياءاً وأمواتاً، ولم يجعلهم كالحيوانات إذا ماتت فإنها تسحب ويرمى بها في فلاة أو تلقى في أي حفرة حتى لا يتأذى الناس برائحتها، بل كرم هذا المخلوق ففرض على الأحياء أن يدفنوه، وذلك إكراماً له، وحتى لا يتأذى الناس من رائحته.

حكم الدفن وتعجيله:

أجمع الفقهاء على أن دفن الميت فرض على الكفاية1؛ لأن في تركه على وجه الأرض هتكاً لحرمته، ويتأذى الناس من رائحته، والأصل فيه قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا}[المرسلات: 25-26]، وقوله سبحانه: {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}[المائدة: 31]، وقوله: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس: 21].

والسنة أن يعجل بتجهيز الميت ودفنه من حين موته، لحديث: ((أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم))2.

ولا خلاف في الدفن لأنه أمر ثابت في الشريعة ثبوتاً متواتراً، قال صلى الله عليه وسلم: ((احفروا وأعمقوا وأحسنوا))3.

اللَّحد والضَرْح:

اللحد هو أن يُحفر في جانب القبر القبلي مكاناً يوضع فيه الميت بقدر ما يسعه ويستره.

وأما الضَرْح: فهو الشق، أي أن يحفر قعر القبر كالنهر، أو يبنى جانباه بلبن أو غيره، ويجعل بينهما شق يوضع فيه الميت، ويسقف عليه ببلاط أو حجارة أو لبن أو خشب ونحوها، ويرفع السقف قليلاً بحيث لا يمس الميت4.

قال الشوكاني رحمه الله: "وأما كونه لا بأس بالضرح، واللحد أولى فلحديث: "أن أبا عبيدة بن الجراح كان يضرح، وأن أبا طلحة كان يلحد" وقد أخرجه ابن ماجه5 من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف، وأخرج أحمد وابن ماجه من حديث أنس قال: "لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجل يلحد وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه، فأُرسِل إليهما، فسبق صاحب اللحد فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم"6، وإسناده حسن، فتقريره صلى الله عليه وسلم للرجلين في حياته، هذا يَلْحَد، وهذا يَضْرَح، يدل على أن الكل جائز. وأما أولوية اللحد فلحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللَّحدُ لنا والشّقُّ لغيرنا)) أخرجه أحمد وأهل السنن7،… وقد ذهب إلى ذلك الأكثر. وحكى النووي في شرح مسلم8 اتفاق العلماء على جواز اللحد والشق"9.

كيفية إدخال الميت القبر:

يسن أن يسل الميت من قبل رأسه، بعد أن يوضع عند أسفل القبر، لحديث عبد الله بن زيد: (أنه أدخل ميتاً من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة)10.

ويسن أن ينزله في القبر أقرب الناس إليه من الذكور، ويستر قبر المرأة عند إنزالها في القبر لأنها عورة11، ويُسن أن يقول من ينزل الميت في القبر: "بسم الله: وعلى ملة رسول الله" لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضعتم موتاكم في القبور؛ فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم))12.

أما قراءة القرآن -كما يفعل في بعض البلدان- أثناء إنزال الميت إلى القبر فهذا مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وليس لهم حجة من كتاب أو سنة، ففعلهم هذا من البدع التي أحدثت في دين الله عز وجل.

كيفية وضع الميت في القبر:

يوضع الميت في لحده على شقه الأيمن مستقبل القبلة؛ ويجعل تحت رأسه لبنة أو حجر أو تراب ويسند إلى جدار القبر الأمامي، ويسند ظهره بتراب ليمنعه من الاستلقاء على قفاه، لقوله صلى الله عليه وسلم في الكعبة: ((قبلتكم أحياء وأمواتاً))13.

ثم تسد عليه فتحة اللحد باللبن والطين حتى يلتحم، ثم يهال عليه التراب، ولا يزاد عليه من غير ترابه.

يسن لكل حاضر الحثو ثلاثاً:

يسن لكل من حضر عند القبر أن يحثو التراب في القبر من قبل رأسه أو غيره ثلاث حثيات باليد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً)14.

لا يُرفع القبر فوق الشبر:

يرفع القبر عن الأرض قدر شبر، ويكون مسنماً -أي محدباً كهيئة السنام- لتنزل عنه مياه السيول، ويوضع عليه حصباء، ويرش بالماء ليتماسك ترابه ولا يتطاير، والحكمة في رفعه بهذا المقدار؛ ليُعلم أنه قبر فلا يداس، ولا بأس بوضع النصائب على طرفيه لبيان حدوده، وليعرف بها، من غير أن يكتب عليها15.

الدعاء للميت بعد الدفن بالتثبيت:

ويستحب إذا فرغ من دفنه أن يقف المسلمون على قبره ويدعوا له ويستغفروا له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه؛ وقال: ((استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل))16.

حرمة البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها:

يحرم البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها، لحديث جابر رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)17، ولحديث علي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه وأمر أن لا يدع تمثالاً إلا طمسه ولا قبراً مشرفاً إلا سواه)18 وروى الترمذي وصححه من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور وأن يُكتب عليها وأن تُوطأ)19، ولأن هذا من وسائل الشرك والتعلق بالأضرحة؛ لأن الجهال إذا رأوا البناء والزخرفة على القبر تعلقوا به20.

تحريم زخرفة القبور وإسراجها:

يحرم زخرفة القبور وتسريجها بالأنوار الكهربائية وغيرها، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)21. ولحديث جابر رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)22.

حرمة إهانة القبور:

يحرم إهانة القبور بالمشي عليها ووطئها بالنعال والجلوس عليها وجعلها مجمعاً للقمامات أو إرسال المياه عليها؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (لأن يجلس أحدكم على جمرة؛ فتخرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر)، وعن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)23، وعن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور وأن يُكتب عليها وأن تُوطأ)24، وعن بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما أنا أماشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبور المشركين فقال: ((لقد سبق هؤلاء خيراً كثيراً)) ثلاثاً ثم مر بقبور المسلمين، فقال: (لقد أدرك هؤلاء خيراً كثيراً)، وحانت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: ((يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك)) فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما25.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "من تدبر نهيه عن الجلوس على القبر والاتكاء عليه والوطء عليه؛ علم أن النهي إنما كان احتراماً لسكانها أن يوطأ بالنعال على رؤوسهم، ولهذا ينهى عن التغوط بين القبور، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجلوس على الجمر حتى تحرق الثياب خير من الجلوس على القبر، ومعلوم أن هذا أخف من المشي بين القبور بالنعال، وبالجملة فاحترام الميت في قبره بمنزلة احترامه في داره التي كان يسكنها في الدنيا، فإن القبر قد صار داره"26.

تحريم اتخاذ القبور مساجد:

يحرم اتخاذ المساجد على القبور -أي ببناء المساجد عليها- والصلاة عندها أو إليها، ففي الصحيحين عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وفي لفظ لهما: ((قاتل الله اليهود والنصارى…)) الحديث، وعن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها))27.

وقال ابن القيم: "يُهدم المسجد إذا بُني على قبر, كما يُنبش الميت إذا دُفن في المسجد, نصَّ على ذلك أحمدُ وغيره, فلا يجتمع في دين الإسلام مسجدٌ وقبرٌ، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معاً لم يجز"28.

تحريم سب الأموات:

سب الأموات محرم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا))29، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء))30، فالمسلم له حرمة حياً وميتاً، ولا يجوز سبه وانتقاصه، حتى وإن كان قد مات، لأنه قد قدم إلى ما قدم، والله هو الذي يتولى حسابه، فيعامله بما يشاء، وسب الأموات يؤذي أقاربهم الأحياء، فلذلك حرم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الفعل.

نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، ويجعلنا من عباده المخلصين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.


1 رد المحتار والدر المختار (1/833)، بداية المجتهد (1/218، 235) المجموع (5/241)، كشاف  القناع (2/96، 146، 152).

2 متفق عليه.

3 رواه أصحاب السنن، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (202).

4 الفقه الإسلامي (2/1550).

5 وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه رقم (359).

6 رواه أحمد، وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (1264).

7 وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5489).

8 شرح صحيح مسلم (7/34).

9 الدراري المضية (1/321-322).

10 رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (101).

11 راجع: الملخص الفقهي (صـ 221)، والفقه الإسلامي (2/1550).

12 رواه أبو داود، والترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (836).

13 رواه أبو داود، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2499).

14 رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (1271).

15 الملخص الفقهي (صـ 222).

16 رواه أبو داود، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (945)، وصحيح أبي داود رقم (2758).

17 رواه مسلم.

18 رواه مسلم.

19 رواه الترمذي (1052)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح رقم (1709).

20 راجع: الملخص الفقهي (صـ 222).

21 رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وحسنة الألباني في مشكاة المصابيح رقم (740).

22 رواه مسلم.

23 رواه مسلم.

24 رواه الترمذي (1052)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح رقم (1709).

25 – رواه أبو داود (3232)، النسائي (2048)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2767).

26 حشية ابن القيم على سنن أبي داود (9/38).

27 رواه مسلم.

28 زاد المعاد (3/572).

29 رواه البخاري

30 رواه الترمذي، وأحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7312).