الصلاة على الجنازة

الصلاة على الجنازة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فمن رحمة الله بعباده المسلمين أن جعل الأحياء منهم يترحمون على الأموات، ويدعون لهم بالمغفرة والرحمة، وما صلاة الجنازة إلا دعاء للميت، لعل الله أن يتقبل دعوة من إخوانه المسلمين، فيرحمه بها، وقد حث نبينا صلى الله عليه وسلم على الصلاة على الجنازة وشهودها حتى تدفن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان))، قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين))1.

وجعل للصلاة أثراً عظيماً، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه))2، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان، فقال: يا كريب انظر ما اجتمع له من الناس، قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته، فقال: تقول هم أربعون؟ قال: نعم، قال: أخرجوه، فإني سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه))3.

حكم صلاة الجنازة:

الصلاة على الميت فرض كفاية، إذا فعلها البعض؛ سقط الإثم عن الباقين، وإن تركها الكل أثموا4. قال الشوكاني رحمه الله: "الصلاة على الأموات ثابتة ثبوتاً ضرورياً من فعله صلى الله عليه وآله وسلم وفعل أصحابه، ولكنها من واجبات الكفاية، لأنهم قد كانوا يصلون على الأموات في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ولا يؤذنونه كما في حديث السوداء التي كانت تقم المسجد، فإنه لم يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد دفنها؛ فقال لهم: ((ألا آذنتموني؟)) وهو في الصحيح5. وامتنع من الصلاة على من عليه دين، وأمرهم بأن يصلوا عليه"6.

أولى الناس بالصلاة عليه:

قال ابن قدامة رحمه الله: (وأحق الناس بالصلاة عليه من أوصى له أن يصلي عليه، هذا مذهب أنس، وزيد بن أرقم، وأبي برزة، وسعيد بن زيد، وأم سلمة، وابن سيرين.

وقال الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي: الولي أحق لأنها ولاية تترتب بترتب العصبات، فالولي فيها أولى كولاية النكاح.

ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم روي أن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر، قاله أحمد قال: وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وأبو بكرة أوصى أن يصلي عليه أبو برزة، وقال غيره: عائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة، وابن مسعود أوصى أن يصلي عليه الزبير، ويونس بن جبير أوصى أن يصلي عليه أنس بن مالك، وأبو سريحة أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم فيصلي عليه فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فقدم زيداً، فهذه قضايا انتشرت فلم يظهر مخالف فكان إجماعاً)7.

شروط الصلاة على الميت:

يشترط في الصلاة على الميت: النية، واستقبال القبلة، وستر العورة، وطهارة المُصلِّي والمصَلَّى عليه، واجتناب النجاسة، وإسلام المُصَلِّي والمصَلَّى عليه، وحضور الجنازة إن كانت بالبلد، وكون المُصَلِّي مكلَّفاً8.

أركان الصلاة على الميت:

أركان الصلاة على الميت سبعة وهي:

       القيام فيها، لأنها صلاة فوجب القيام فيها.

   والتكبيرات الأربع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على النجاشي أربعاً، وإن زاد على الأربع فجائز، قال العلامة الألباني: "ويكبر عليها أربعاً أو خمساً إلى تسع تكبيرات كل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فأيها فعل أجزأه، والأولى التنويع، فيفعل هذا تارة وهذا تارة، كما هو الشأن في أمثاله: كأدعية الاستفتاح، وصيغ التشهد، والصلوات الإبراهيمية، ونحوهما، وإن كان لا بد من التزام نوع واحد منها فهو الأربع؛ لأن الأحاديث فيها أقوى وأكثر والمقتدي يكبر ما كبر الإمام)9.

   وقراءة الفاتحة؛ لعموم حديث: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))10، ولحديث طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، فقال: ليعلموا أنها سنة)11.

   والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أن السنة في الصلاة على الجنازة: أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سراً في نفسه) رواه الشافعي في مسنده، وزاد الأثرم: (السنة يفعل مَن وراء الإمام مثل ما يفعل إمامهم)12.

   والدعاء للميت؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء))13، ويدعو للميت بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة يقول: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده))14، ((اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر "أو من عذاب النار"))15.

       والترتيب؛ لما تقد من حديث أبي أمامة.

   والتسليم؛ لعموم حديث: ((مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم))16، وهو عند الحنابلة تسليمة واحدة عن اليمين17. وقال الألباني رحمه الله: "يسلم تسليمتين مثل تسليمه في الصلاة المكتوبة، إحداها عن يمينه والأخرى عن يساره؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن تركهن الناس: إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة"18. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسلمتين في الصلاة، فهذا يبين أن المراد بقوله في الحديث الأول: "مثل التسليم في الصلاة" أي التسليمتين المعهودتين)19.

سنن صلاة الجنازة:

أما سنن صلاة الجنازة فهي: رفع اليدين مع كل تكبيرة، والاستعاذة قبل القراءة وأن يدعو لنفسه وللمسلمين، والإسرار بالقراءة، وأن يقف بعد التكبيرة الرابعة وقبل التسليم قليلاً، وأن يضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره، والالتفات على يمينه في التسليم20.

كيفية صلاة الجنازة:

تكون الصلاة على الميت بأن يقوم الإمام، ويقف المأمومون خلفه, ويسن جعلهم ثلاثة صفوف, ثم يكبر للإحرام, ويتعوذ بعد التكبير مباشرة فلا يستفتح, ويسمي, ويقرأ الفاتحة, ثم يكبر, ويصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وسلم مثل الصلاة عليه في تشهد الصلاة, ثم يكبر, ويدعو للميت بما ورد, ثم يكبر, ويقف بعدها قليلاً, ثم يسلم21.

مكان وقوف الإمام من الجنازة:

قال ابن قدامة رحمه الله: "لا يختلف المذهب22 في أن السنة أن يقوم الإمام في صلاة الجنازة حذاء وسط المرأة، وعند صدر الرجل أو عند منكبيه، وإن وقف في غير هذا الموضع خالف سنة الموقف وأجزأه، وهذا قول إسحاق ونحوه قول الشافعي، إلا أن بعض أصحابه قال: يقوم عند رأس الرجل وهو مذهب أبي يوسف ومحمد23 لما روي عن أنس: أنه صلى على رجل فقام عند رأسه، ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الجنازة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم، فلما فرغ قال: احفظا. قال: الترمذي: هذا حديث حسن. وقال أبو حنيفة: يقوم عند صدر الرجل والمرأة؛ لأنهما سواء فإذا وقف عند صدر الرجل فكذا المرأة، وقال مالك: يقف من الرجل عند وسطه؛ لأنه يروى هذا عن ابن مسعود، ويقف من المرأة عند منكبها؛ لأن الوقوف عند أعاليها أمثل وأسلم.

ولنا ما روى سمرة قال: (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها) متفق عليه. وحديث أنس الذي ذكرناه. والمرأة تخالف الرجل في الموقف فجاز أن تخالفه هاهنا، ولأن قيامه عند وسط المرأة ستر لها من الناس فكان أولى، فأما قول من قال: يقف عند رأس الرجل، فغير مخالف لقول من قال بالوقوف عند الصدر؛ لأنهما متقاربان، فالواقف عند أحدهما واقف عند الآخر. والله أعلم"24.

حالة المسبوق في صلاة الجنازة:

من فاته بعض الصلاة على الجنازة؛ دخل مع الأمام فيما بقي، ثم إذا سلم الإمام؛ قضى ما فاته على صفته، وإن خشي أن ترفع الجنازة؛ تابع التكبيرات -أي بدون فصل بينها- ثم سلم25.

تكرار الصلاة على الميت قبل الدفن:

يكره عند الحنفية والمالكية تكرار الصلاة على الجنازة حيث كانت الأولى في جماعة، فإن لم تكن في جماعة أعيدت ندباً قبل الدفن26.

وأجاز الشافعية والحنابلة تكرار الصلاة على الجنازة مرة أخرى، لمن لم يصل عليها أولاً، ولو بعد الدفن27، بل يسن ذلك عند الشافعية، فقد فعله عدد من الصحابة، وفي حديث متفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب، فصفوا خلفه، وكبر أربعاً).

الصلاة على الميت بعد الدفن:

أجاز الفقهاء لمن لم يصل عليه أن يصلى على قبره، وأجازوا لمن فاتته الصلاة أن يصلي على القبر، لحديث ابن عباس رضي الله عنهقال: (انتهى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قبر رطب، فصفوا خلفه، وكبر أربعاً)28، وحديث المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد فماتت فصلى النبي على قبرها29.

الصلاة على الغائب:

للفقهاء رأيان في الصلاة على الغائب عن البلد30:

رأي الحنفية والمالكية: عدم جواز الصلاة على الغائب، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لغوية أو خصوصية، وتكون الصلاة حينئذ مكروهة.

ورأي الشافعية والحنابلة: جواز الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وإن قربت المسافة، ولم يكن في جهة القبلة، لكن المصلي يستقبل القبلة، لما روى جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعاً)31.

الصلاة على المولود:

قال ابن قدامة رحمه الله "والسقط إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر غسِّل وصُلي عليه، السقط: الولد تضعه المرأة ميتاً أو لغير تمام، فأما إن خرج حياً واستهل فإنه يغسل ويصلى عليه بغير خلاف، قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته واستهل يصلى عليه". وإن لم يستهل قال أحمد: إذا أتى له أربعة أشهر غُسِّل وصلي عليه)32. وعن المغيرة ابن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة))33، وفي لفظ الترمذي والنسائي وابن ماجه: ((والطفل يصلى عليه))34.

الذين لا يصلى عليهم:

الشهيد: ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد.

الكافر: لقوله تعالى: ((وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ))[التوبة: 84]. قال الشوكاني وهو يشرح قوله: "ولا يصلى على الغال وقاتل نفسه والكافر والشهيد": (وأما الكافر فذلك هو المعلوم منه صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى على كافر وقد صرح بذلك القرآن الكريم قال الله عز وجل: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ})35.

نسأل الله أن يرحمنا برحمته، وأن يتجاوز عن سيئاتنا، ويصلح أعمالنا، ولا يتوفانا إلا وهو رضٍ عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.


1 متفق عليه.

2 رواه مسلم.

3 رواه مسلم.

4 راجع: المغني (1/794)، والشرح الكبير (2/308)، والملخص الفقهي (صـ 218).

5 متفق عليه.

6 الدراري المضية (1/305).

7 المغني (2/362).

8 الملخص الفقهي (صـ 218).

9 تلخيص أحكام الجنائز (صـ 55).

10 متفق عليه.

11 رواه البخاري.

12 صححه الألباني في الإرواء (734).

13 رواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2740).

14 رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2741).

15 رواه مسلم.

16 رواه أبو داود، الترمذي وابن ماجه، وقال الألباني: "حسن صحيح" رقم (577).

17 راجع: منار السبيل (1/173)، والملخص الفقهي (صـ 219).

18 رواه البيهقي، وحسنه الألباني في تلخيص أحكام الجنائز (صـ 56).

19 تلخيص أحكام الجنائز (صـ 56).

20 الملخص الفقهي (صـ 219).

21 راجع: المغني (2/366)، والشرح الكبير (2/343)، والملخص الفقهي (صـ 219).

22 يقصد به المذهب الحنبلي.

23 وبه قال الشوكاني انظر، نيل الأوطار (4/109)، والألباني، انظر تلخيص أحكام الجنائز (صـ 54).

24 المغني (2/390).

25 الملخص الفقهي (صـ 219).

26 الشرح الصغير (1/569).

27 المغني (2/511-512)، ومغني المحتاج (1/361).

28 متفق عليه.

29 متفق عليه.

30 الدر المختار (1/813)، المجموع (5/209)، مغني المحتاج (1/345)، المغني (2/512 وما بعدها).

31 متفق عليه.

32 المغني (2/393).

33 رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2723).

34 صححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3523).

35 الدراري المضية شرح الدرر البهية (1/310).