وفي أنفسكم أفلا تبصرون

وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟

الحمد لله رب العالمين، الذي خلق الإنسان، وصوره فأحسن صورته، وجعله في أحسن تقويم، والصلاة والسلام على رسول الله محمد الداعي بإذن ربه إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحبه ذوي المعتقد السليم، والدين القويم، أما بعد: أخي: هل تفكرت في نفسك يوماً، وما خلق الله فيك من عجائب الخلق والإبداع؟ وهل تأملت يوماً في هذه النفس التي هي من نعم الله عليك؟ لو تفكرت حق التفكر، ونظرت نظرة اعتبار لا نظر أبصار لزاد إيمانك بالله، وأوقنت أن الله هو الحق، وأن ما دونه هو الباطل .. وكل الناس يعلمون أن فيهم أجهزة متعددة، ويرون ذلك، لكن دون نظر تأمل وتفكر يقودان إلى شكر الله، وتمجيده، وعبادته.. إن في الإنسان من عجائب خلق الله ما أذهل أهل التخصص في العلوم الإنسانية والطبية، ولقد جمع الله أسرار النفس البشرية في قوله: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20-21].

انظر إلى كلام ابن القيم رحمه الله وهو يبين ما في النفس من عجائب الخلق والإبداع والإتقان، يقول ابن القيم مفسراً الآية السابقة: “لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه دعاه خالقه، وبارئه، ومصوره، وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر، والتفكر في نفسه، فإذا تفكر الإنسان في نفسه استنارت له آيات الربوبية، وسطعت له أنوار اليقين، واضمحلت عنه غمرات الشك والريب، وانقشعت عنه ظلمات الجهل، فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثار التدبير فيه قائمات، وأدلة التوحيد على ربه ناطقات شاهدة لمدبره، دالة عليه، مرشدة إليه، إذا يجده مكونا من قطرة ماء: لحوماً منضدة، وعظاماً مركبة، وأوصالاً متعددة، مأسورة مشددة بحباله، العروق والأعصاب قد قمطت وشدت، وجمعت بجلد متين مشتمل على ثلاثمائة وستين مفصلاً ما بين كبير وصغير، وثخين ودقيق، ومستطيل ومستدير، ومستقيم ومنحن، وشدت هذه الأوصال بثلاثمائة وستين عرقاً للاتصال والانفصال، والقبض والبسط، والمد والضم، والصنايع والكتابة.

وجعل فيه تسعة أبواب: فبابان للسمع، وبابان للبصر، وبابان للشم، وبابا للكلام والطعام والشراب والتنفس، وبابان لخروج الفضلات التي يؤذيه احتباسها.. وجعل داخل بابي السمع مُراً قاتلاً لئلا تلج فيها ما تخلص إلى الدماغ فتؤذيه، وجعل داخل بابي البصر مالحاً لئلا تذيب الحرارة الدائمة ما هناك من الشحم، وجعل داخل باب الطعام والشراب حلواً ليسيغ به ما يأكله ويشربه فلا يتنغص به لو كان مراً أو مالحاً.

وجعل له مصباحين من نور كالسراج المضيء مركبين في أعلى مكان منه، وفي أشرف عضو من أعضائه طليعة له، وركب هذا النور في جزء صغير جدا يبصر به السماء والأرض وما بينهما، وغشاه بسبع طبقات، وثلاث رطوبات بعضها فوق بعض حماية له، وصيانة، وحراسة، وجعل على محله غلقاً بمصراعين أعلى وأسفل، وركب في ذيل المصراعين أهداباً من الشعر وقاية للعين، وزينة وجمالاً، وجعل فوق ذلك كله حاجبين من الشعر يحجبان العين من العرق النازل، ويتلقيان عنها ما ينصب من هناك، وجعل سبحانه لكل طبقة من طبقات العين شغلاً مخصوصاً، ولكل واحد من الرطوبات مقداراً مخصوصاً لو زاد على ذلك أو نقص منه لاختلت المنافع والمصالح المطلوبة، وجعل هذا النور الباصر في قدر عدسة، ثم أظهر في تلك العدسة صورة السماء والأرض، والشمس والقمر، والنجوم والجبال، والعالم العلوي والسفلي، مع اتساع أطرافه، وتباعد أقطاره، واقتضت حكمته سبحانه أن جعل فيها بياضاً وسواداً، وجعل القوة الباصرة في السواد، وجعل البياض مستقراً لها، ومسكناً، وزين كلا منهما بالآخر، وجعل الحدقة مصونة بالأجفان والحواجب كما تقدم، وجعلها سوداء إذ لو كانت بيضاء لتفرق النور الباصر فضعف الإدراك، فإن السواد يجمع البصر، ويمنع من تفرق النور الباصر، وخلق سبحانه لتحريك الحدقة وتقليبها أربعاً وعشرين عضلة لو نقصت عضلة واحدة لاختل أمر العين.

ولما كانت العين كالمرآة التي إنما تنطبع فيها الصور إذا كانت في غاية الصقالة والصفاء جعل سبحانه هذه الأجفان متحركة جداً بالطبع إلى الانطباق من غير تكلف لتبقى هذه المرآة نقية صافية من جميع الكدورات، ولهذا لما لم يخلق لعين الذُّبابة أجفاناً فإنها لا تزال تراها تنظف عينها بيدها من آثار الغبار والكدورات. وكما جعل سبحانه العينين مؤديتين للقلب ما يريانه فيوصلانه إليه كما تَرياه جعلهما مرآتين للقلب يظهر فيهما ما هو مودع فيه من الحب والبغض، والخير والشر، والبلادة والفطنة، والزيغ والاستقامة، فيستدل بأحوال العين على أحوال القلب، وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة: وهي فراسة العين، وفراسة الأذن، وفراسة القلب، فالعين مرآة للقلب، وطليعة ورسول. ومن عجيب أمرها أنها من ألطف الأعضاء، وأبعدها تأثراً بالحر والبرد، على أن الأذن على صلابتها وغلظها لتتأثر بهما أكثر من تأثر العين على لطافتها، وليس ذلك بسبب الغطاء الذي عليها من الأجفان، فإنها لو كانت متفتحة لم تتأثر بذلك تأثر الأعضاء اللطيفة..

ومن ذلك: الأذنان شقهما تبارك وتعالى في جانبي الوجه، وأودعهما من الرطوبة ما يكون معيناً على إدراك السمع، وأودعهما القوة السمعية، وجعل سبحانه في هذه الصدقة انحرافات، واعوجاجات؛ لتطول المسافة قليلاً، فلا يصل الهواء إلا بعد انكسار حدته، فلا يصدمها وهلة واحدة فيؤذيها، وأيضاً لئلا يفجؤها الداخل إليها من الدبيب والحشرات، بل إذا دخل إلى عوجة من تلك الانعطافات وقف هناك فسهل إخراجه. وكانت العينان في وسط الوجه والأذنان في جانبيه؛ لأن العينين محل الملاحة والزينة والجمال، وهما بمنزلة النور الذي يمشي بين يدي الإنسان، وأما الأذنان فكان جعلهما في الجانبين لكون إدراكهما لما خلف الإنسان وأمامه، وعن يمينه وعن شماله سواء، فتأتي المسموعات إليهما على نسبة واحدة، وخلق العينان بغطاء، والأذنان بغير غطاء، وهذا في غاية الحكمة؛ إذ لو كان للأذنين غطاء لمنع الغطاء إدراك الصوت، فلا يحصل إلا بعد ارتفاع الغطاء، والصوت عرض لا ثبات له، فكان يزول قبل كشف الغطاء، بخلاف ما تراه العين، فإنه أجسام وأعراض لا تزول فيما بين كشف الغطاء وفتح العين.

وجعل سبحانه الأذن عضواً غضروفياً ليس بلحم مسترخ، ولا عظم صلب، بل هي بين الصلابة واللين، فتقبل بلينها، وتحفظ بصلابتها، ولا تنصدع انصداع العظام، ولا تتأثر بالحر والبرد، والشمس والسموم تأثر اللحم؛ إذ المصلحة في بروزها لتتلقى ما يرد عليها من الأصوات والأخبار..”1.

ولو فصلنا ما تحويه كل حاسة وكل عضو في بدن الإنسان لاستغرق ذلك وقتاً، واتسع الموضوع جداً، ولكن حسبنا ما ذكره ابن القيم عن هاتين الحاستين، وما فيهما من الحكم والأسرار الإلهية التي تنبئ عن علم الله، وحكمته، وعظمته . وهذه النعم التي في جسم الإنسان ينبغي عليه شكرها؛ لأنها لا تقدر بأثمان، بل لو طلب من الإنسان جميع أمواله لعلاج عينه أو أذنه أو غيرهما لبذله كله مقابل أن تسلم له تلك الحواس الثمينة، ولكن كثيراً من الناس لا يتفكرون في خلقهم، ولا يشكرون المنعم عليهم بتلك النعم والأسرار.. نسأله سبحانه أن يرحمنا، وأن يعيننا على التأمل في مخلوقاته وموجوداته، لنعبده ونقوم بأمره حق القيام، وهو المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.


1 التبيان في أقسام القرآن لابن القيم (1/188).