ففروا إلى الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
عباد الله: يقول الله تعالى:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}(50) سورة الذاريات.
يقول تعالى ذكره: فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ) يقول: إني لكم من الله نذير أنذركم عقابه، وأخوّفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم الذي قصّ عليكم قصصهم، والذي هو مذيقهم في الآخرة1.
وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم.
وعنه فروا منه إليه، وأعملوا بطاعته.
وقال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، اخرجوا إلى مكة.
وقال الحسين ابن الفضل: احترزوا من كل شيء دون الله، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه.
وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن.
وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه.
وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر.
وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم.
وقال أيضاً: فروا إلى ما سبق لكم من الله، ولا تعتمدوا على حركاتكم.
وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله.
{إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}. أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية2.
عباد الله: مَنْ صَحَّ فِرارُه إلى الله صَحَّ قرارُه مع الله.
من خاف من شيء هرب وفرَّ منه، ومن خاف من الله هرب وفرَّ إليه… فرَّ إليه من هذه الأثقال والقيود التي تكبِّله وتشدُّه إلى الأرض وتحاصره فيأتي النداء قوياً، فروا إلى الله، إلى الطمأنينة، وهدوء النفس، ونعيم الروح، وجنة عرضها السماوات والأرض. فروا إليه لأنه لا ملجأ من الله إلا إليه:
فلا سعادة للبشرية عامة، وللمسلمين خاصة، إلا بالعودة لمنهج الله – عز وجل – الذي خلق الإنسان وحده، وهو وحده الذي يعلم ما يسعده و ما يفسده، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}الملك:14.
أيها الأحبة في الله: هل رأى منكم فاراً من مهلكة؟ ليتصور كل واحد منا كيف يكون حاله إذا برز له أسد فجأة على الطريق، وأخذ يعدو وراءه، أو برز له عدو مسلح وأخذ يطارده، فكيف يكون ردة فعل المطارد أيمشي على هون؟ أيتلفت يمنة ويسرة؟ أم أنه ينطلق بكل ما أوتي من قوة يعدو، ولا يشغل باله في تلك اللحظات إلا النجاة والأمان من مطارده؟
الفرار ليس له إلا صورة واحدة ألا وهي الانطلاق بكل ما أوتي الفار من قوة طلباً للنجاة، فهل جرب كل واحد منا الفرار؟ الفرار أمر حتمي لكل واحد منا لأنه أمر رباني أمرنا الله به، لكن الفرار إلى أين؟ لقد حدد الله لك الوجهة، ورسم لك الطريق فقال سبحانه:
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}
نعم إنه الفرار إلى الله، تفر إلى الله لأن خلفك عدوك إبليس، يسعى خلفك جاهداً بكل ما أوتي من قوة ليجعلك من أصحاب السعير، أخبرك بذلك ربك وحبيبك يوم أن قال:
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(6) سورة فاطر، ومع الأسف هناك من الناس من عكس طريق سيره فسار باتجاه عدوه ففرح به ذلك العدو، واحتضنه فأصبحت ترى شيطاناً في ثوب إنسان؛ فلماذا كان كذلك لأنه ما استجاب لنداء اللطيف الخبير:
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}
ولمثل هذا يقول العليم الحكيم:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (20) سورة الحديد.
ولا يعني الفرار إلى الله -عباد الله- أن نعطل الحياة، لا. ولكن الله أمرنا بالسعي لطلب الرزق فقال:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (15) سورة الملك.
ولكن الفارَّ لا تسيطر على عقله إلا فكرة واحدة وهي النجاة، فلمن انشغلوا بدنياهم عن آخرتهم نقول لهم:
فروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ومن فضل الكريم الرحيم علينا معاشر المؤمنين أنه لم يجعل من عملية الفرار إليه عملية صعبة ولم يجعلها في طريق وعرة بل مهد لنا سبحانه وتعالى بفضله وكرمه طريق الفرار إليه ويسر لنا سبله فأنت تستطيع أن تفر إلى الله على كل حال من أحوالك وأنت سائر وأنت واقف وأنت قاعد، وأنت نائم، وأنت في بيتك، وأنت في حيك وأنت في عملك أو سوقك تستطيع الفرار إلى الله.
عباد الله: إن من رحمة الله تعالى بعباده أنه إذا علم من عبده صدق الفرار إليه أعانه ووفقه ولم يتركه وحده، واستمعوا معي إلى وعد من لا يخلف الميعاد، يوم أن قال:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(69) سورة العنكبوت ويقول تعالى:
{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}(128) سورة النحل.
وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً).3
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وعلى آ له وصحبه وسلم-.
أما بعد:
اتقوا الله عباد الله وفروا إلى ربكم واعلموا -رحمني الله وإياكم- أن معنى الفرار إلى الله أن لا يشغل العبد فكره أو قلبه بشيء من الدنيا، وإنما أن تكون الفكرة المسيطرة على حياته هي طلب رضا الله – عز وجل -.
يا عبد الله إلى متى التسويف؟ إذا لم تفر إلى الله الآن وأنت بكامل قوتك وعافيتك فمتى تفر؟ أتفر بعد أن يشيب شعرك وتضعف قوتك وتتراكم على جسدك الأمراض والعلل؟ أتفر إلى الله بعد أن تشخص عينك وتشل أطرافك وتصبح جثة هامدة؟ كم من مفرط فرط وفرط حتى فاجأه الموت فقام يصرخ بصوت ملؤه الندم: {..رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} (4 -10) . المؤمنون.4
قال السعدي في تفسير هذه الآية: "فلما دعا العباد النظر لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه، أمر بما هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه أي: الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبه، ظاهرًا وباطنًا، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، و من الغفلة إلى ذكر الله، فمن استكمل هذه الأمور، فقد استكمل الدين كله، وقد زال عنه المرهوب، وحصل له، نهاية المراد والمطلوب.
وسمى الله الرجوع إليه فراراً، لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن والسرور والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه إلى الله تعالى، فإنه بحسب الخوف منه يكون الفرار إليه: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: منذر لكم من عذاب الله، ومخوف بيِّن النذارة.
{وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} هذا من الفرار إلى الله، بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد من اتخاذ آلهة غير الله، من الأوثان والأنداد والقبور، وغيرها مما عبد من دون الله، ويخلص العبد لربه العبادة والخوف، والرجاء والدعاء، والإنابة5.
عباد الله: فكل إنسان يحرص على الخير وعلى طاعة الله – عز وجل – لأنه وحده سيحاسب، وحده سيقف أمام الله – عز وجل -، وحده سيوضع في القبر، ثم بعد ذلك يدرك حقيقة ما كان عليه من التفريط والتضييع.
نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الفارين إليه الراغبين بما عنده.
هذا وأسأل الله – عز وجل – أن يلطف بنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد.