الدعاء

الدعاء

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}[النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحشر: 18].

أيها المسلمون: اعلموا أن الله تعالى خلقنا لعبادته وحده لا شريك له، وقد شرع لنا سبحانه جملة من العبادات التي تقربنا إليه، ومن هذه العبادات عبادة الدعاء قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر: 60]، "ومعنى الدعاء استدعاءُ العبدِ ربَّه عزَّ وجلَّ العنايةَ، واستمدادُه منه المعونةَ، وحقيقته: إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرُّؤ من الحول والقوّة، وهو سمةُ العبودية، واستشعارُ الذلَّة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجلَّ، وإضافة الجود والكرم إليه"1.

ولقد ورد في فضل الدعاء وأهميته آيات كريمة، وأحاديث نبوية كثيرة، فمن فضائله العظيمة التي دلَّ عليها الكتاب والسنة:

   أن الله تعالى أثنى على أنبيائه به فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـٰشِعِينَ}[الأنبياء: 90]، فأثنى سبحانه عليهم بهذه الأوصاف الثلاثة: المسارعة في الخيرات، ودعاؤه رغبة ورهبة، والخشوع له، وبيَّن أنها هي السبب في تمكينهم ونصرتهم، وإظهارهم على أعدائهم، ولو كان شيء أبلغ في الثناء عليهم من هذه الأوصاف لذكره سبحانه وتعالى.

   ومن فضل الدعاء يا عباد الله أنَّه سنَّة الأنبياء والمرسلين، ودأب الأولياء والصالحين، ووظيفة المؤمنين المتواضعين قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}[الإسراء: 57]، وقال سبحانه: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[السجدة: 16-17]، وهو صفة من صفات عباد الرحمن قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}[الفرقان: 65-77]، وهو ميزة أولي الألباب قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} إلى قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}[آل عمران: 190-195].

   وهو شأن من شؤون الملائكة الكرام قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الشورى: 5]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[غافر: 79].

وهو من أفضل العبادات قال الله – تعالى -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر: 60]، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة))2، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ…} قال الخطابي: "معناه أنه معظم العبادة، وأفضل العبادة كقولهم: الناس بنو تميم، والمال الإبل، يريدون أنهم أفضل الناس أو أكثرهم عدداً أو ما أشبه ذلك، وأن الإبل أفضل أنواع الأموال وأنبلها"3.

وقال المباركفوري: "أي هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة؛ لدلالته على الإقبال على الله, والإعراض عما سواه، بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه"4.

ومن فضائل الدعاء يا عباد الله أن الله تعالى سماه ديناً فقال سبحانه: {فَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ}[الأعراف: 29].

ومن فضائله أنه أكرم شيء على الله تعالى فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء))5.

قال الشوكاني في تحفة الذاكرين6: "قيل: وجه ذلك أنه يدل على قدرة الله تعالى وعجز الداعي، والأولى أن يقال: إن الدعاء لما كان هو العبادة, وكان مخ العبادة كما تقدم؛ كان أكرم على الله من هذه الحيثية؛ لأن العبادة هي التي خلق الله سبحانه الخلق لها كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56].

ومن فضائل الدعاء أنَّ الله تعالى أمر به وحثَّ عليه، وكذلك رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ}[النساء: 32]، وقال: {وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60]، وقال: {فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ}[غافر: 14]، وقال: {ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} إلى قوله تعالى: {وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً}[الأعراف: 55-56]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسألِ اللهَ يغضبْ عليه))7.

ومن فضله العظيم أنَّ أهل الجنَّة به علَّلوا نجاتهم من عذاب النار فقالوا: {فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَـٰنَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ}[الطور: 27-28].

وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجالسَ ويلازمَ أهلَ الدعاء، وأن لا يعدُوَهم إلى غيرهم قال الله تعالى: {وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ جْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}[الكهف: 28].

 ونهى الله تعالى عن الإساءة إلى أهل الدعاء تشريفاً وتكريماً لهم فقال: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام: 52].

عباد الله: إن الله تعالى قريب من أهل الدعاء قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186]، وقد جاء في سبب نزولها أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية8.

قال ابن القيم: "وهذا القرب من الداعي قرب خاص، ليس قرباً عاماً من كل أحد، فهو قريب من داعيه، وقريب من عابده، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه، بل هو قرب خاص من الداعي والعابد"9.

ومن لزم الدعاء فلن يدركه الشقاء قال الله تعالى عن زكريَّا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً}[مريم: 5]، وقال عن خليله إبراهيم: {عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّاً}[مريم: 48].

والدعاء من صفات أهل الجنة في الجنة قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس: 10].

والدعاء كلُّه خير فعن أبي سعيد رضي الله عنه رفعه: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم؛ إلاَّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يُعجِّل له دعوته، وإمَّا أن يدَّخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السوء مثلها))10، قال ابن حجر: "كلّ داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعوضه"11.

والدعاء مفتاح أبواب الرحمة، وسبب لرفع البلاء قبل نزوله وبعد نزوله، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فُتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئاً يُعطى أحب إليه من أن يسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء))12، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة))13.

قال المباركفوري: "قوله: ((من فتح له منكم باب الدعاء)) أي: بأن وفق لأن يدعو الله كثيراً مع وجود شرائطه، وحصول آدابه، ((فتحت له أبواب الرحمة)) يعني أنه يجاب لمسئوله تارة، ويدفع عنه مِثله من السوء أخرى، كما في بعض الروايات: ((فتحت له أبواب الإجابة)) وفي بعضها: (( فتحت له أبواب الجنة))".

وقال في قوله: ((إن الدعاء ينفع مما نزل)): "أي من بلاء نزل بالرفع إن كان معلقاً، وبالصبر إن كان محكماً؛ فيسهل عليه تحمل ما نزل به فيُصَبِّره عليه أو يُرضيه به، حتى لا يكون في نزوله متمنياً خلاف ما كان، بل يتلذذ بالبلاء كما يتلذذ أهل الدنيا بالنعماء، ((ومما لم ينزل)) أي: بأن يصرفه عنه ويدفعه منه، أو يمدّه قبل النزول بتأييد من يخف معه أعباء ذلك إذا نزل به، ((فعليكم عباد الله بالدعاء)) أي: إذا كان هذا شأن الدعاء فالزموا يا عباد الله الدعاء"14.

وهو سبب لدفع العذاب، ومانع من موانع العقاب، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال: 33]، قال ابن تيمية: "الذنوب تزول عقوباتها بأسباب… وتزول أيضاً بدعاء المؤمنين كالصلاة عليه، وشفاعة الشفيع المطاع لمن شفع فيه"15.

والدعاء من أعظم ما يزيد في الإيمان، ويقوي حلاوته في القلب قال ابن تيمية: "من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده، فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحداً سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه، والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان، وذوق طعمه، والبراءة من الشرك؛ ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب أو حصول اليسر، وزوال العسر في المعيشة، فإن ذلك لذَّات بدنية، ونعم دنيوية، قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن، وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف: يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك، وقال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي، خشيةَ أن تنصرف نفسي عن ذلك، لأن النفس لا تريد إلا حظها، فإذا قضي انصرفت، وفي بعض الإسرائيليات: يا ابن آدم البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك"16.

ومن فضل الدعاء أنه يرد القضاء فعن ثوبان مولى رسول الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا يرد القدر إلا الدعاء))17، قال الإمام الشوكاني: "فيه دليل على أنه سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة"18، وقال: "والحاصل أن الدعاء من قدر الله عز وجل؛ فقد يقضي على عبده قضاء مقيداً بأن لا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه"19، وقال المباركفوري: "القضاء هو الأمر المقدر، وتأويل الحديث أنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه، فإذا وُفق للدعاء دفعه الله عنه، فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقي عنه"20.

وقال ابن القيم: "والصواب أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال"21.

عباد الله: هذه بعض فضائل الدعاء، فما هي آداب الدعاء ومستحباته التي ينبغي أن نتحلى بها؟ هذا ما سنتكلم عليه في الخطبة الثانية، قلت ما سمعتم واستغفروا الله فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على محمد الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

عباد الله: إن للدعاء آداباً ومستحبات ينبغي مراعاتها، من ذلك:

أنك إذا دعوت الله تعالى فلتبدأ أولاً بحمده والثناء عليه – تبارك وتعالى -، ثم بعدها بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك ادع بدعائك ومسألتك، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: ((بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدْ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَصَلِّ عَلَيَّ ثُمَّ ادْعُهُ، قَالَ: ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تُجَبْ))22.

ومن آداب الدعاء الحسنة: الوضوء حتى تقبل على الله تعالى طاهراً متهيئاً لمناجاته ودعائه، ففي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: لما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعبيد أبي عامر دعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: ((اللهم اغفر لعبيد أبي عامر …))23.

ومن آداب الدعاء استقبال القبلة فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش))24، وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: ((خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى يستسقي، فدعا واستسقى، ثم استقبل القبلة، وقلب رداءه))25.

ومن آدابه اختيار أحسن الألفاظ وأنبلها، وأجمعها للمعاني وأبينها، ولا أحسن مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة، فإن الأدعية القرآنية والأدعية النبوية أولى ما يدعى به بعد تفهمها وتدبرها؛ لأنها أكثر بركة، ولأنها جامعة للخير كله، في أشرف الألفاظ وأفضل العبارات وألطفها، ولأن الغلط يعرض كثيراً في الأدعية التي يختارها الناس لاختلاف معارفهم، وتباين مذاهبهم في الاعتقاد والانتحال.

قال القاضي عياض: "أذن الله في دعائه، وعلَّم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم، وقد احتال الشيطان للناس في هذا المقام فقيَّض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأشد ما في الإحالة أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين، فيقولون: دعاء نوح، دعاء يونس، دعاء أبي بكر، فاتقوا الله في أنفسكم، لا تشغلوا من الحديث إلا بالصحيح"26.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة، فإنَّ ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنَّه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقا"27.

أخي المسلم: وإذا أردت لدعائك أن يصعد حقاً فتأمل في حالك وقت الدعاء، هل أنت ممن يدعون دعاء الراغب، الراهب، المستكين، الخاضع، المتذلل الفقير إلى ما عند ربه تبارك وتعالى؟ أم أنك أخي إذا دعوت كان دعاء غافل لاه.

أخي: إن التذلل والخضوع والافتقار إلى الله أثناء الدعاء له مفعول عجيب في إجابة الدعاء، وقد غفل الكثيرون عن ذلك فتجد أحدهم إذا دعا أخرج كلمات جافة لا أثر للخضوع والتذلل فيها، وقد نسي هذا أنه يخاطب ملك الملوك، المتفرد بالجلال والكبرياء.

أخي المسلم: إن أثر التذلل والخضوع على إجابة الدعاء سريع، مضمون الفائدة، ولا يجد هذا إلا من جربه فادع أخي بلسان الخضوع والتذلل والمسكنة، دعاء عبد فقير إلى ما عند ربه تعالى، محتاجاً إلى فضله وإحسانه، مقراً بذنوبه، خاضعاً خضوع المقصرين، يرى أنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.

ومن آداب الدعاء يا عباد الله: أن يترصد المسلم لدعائه الأوقات الشريفة كعشية عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، وخاصة العشر الأواخر منه، وبالأخص ليلة القدر، ويوم الجمعة من الأسبوع، وبالأخص آخر ساعة منها، وبين الأذان والإقامة، ووقت السحر من ساعات الليل قال الله تعالى: {وَبِٱلأَسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات: 18]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول عز وجل: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له))28، وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات))29.

وعلى المسلم أن يغتنم الحالات الفاضلة: كالسجود، ودبر الصلوات، والصيام، وعند اللقاء، وعند نزول الغيث؛ قال ابن القيم: "((دبر الصلاة)) يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا – يعني ابن تيمية – يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه فقال: دبر كل شيء منه كدبر الحيوان"30.

ومن آداب الدعاء أخي المسلم: أن تستغلَّ حالات الضرورة والانكسار، وساعات الضيق والشدة: كالسفر، والمرض، وكونه مظلوماً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده))31.

قال ابن رجب: "والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء، ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان، وتحمل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء"32.

ومن الآداب أيضاً: رفع اليدين وبسط الكفَّين فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه، ورأيت بياض إبطيه))33، وعن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين))34.

ومن الآداب التأمين بعده فهو كالخاتم له.

هذه بعض آداب الدعاء عباد الله؛ نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لكل خير، والحمد لله رب العالمين.


1 شأن الدعاء للخطابي (ص4).

2 أخرجه أحمد (4/267)، والترمذي (2969)، وأبو داود (1479)، وابن ماجه (3829)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وابن حبان (890) والحاكم وصححه (1/490، 491)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، في صحيح الجامع (3407).

3 شأن الدعاء (5).

4 تحفة الأحوذي (8/247).

5 أخرجه أحمد (2/362)، والترمذي (3370)، وابن ماجه (3829)، وقال الترمذي: حسن غريب، وابن حبان (870)، والحاكم وصححه (1/490)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (549).

6 تحفة الذاكرين (ص30).

7 أخرجه أحمد (2/442)، والترمذي (3373)، وابن ماجه (3827)، والحاكم وصححه (1/491)، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (512).

8 تفسير الطبري (2/158).

9 بدائع الفوائد (3/8).

10 أخرجه أحمد (3/18)، والبخاري في الأدب المفرد (710)، وصححه الحاكم (1/493)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (1/258)، وصحيح الترغيب والترهيب(2/128).

11 الفتح (11/95).

12 أخرجه الترمذي (3548) وضعفه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3409).

13 أخرجه الطبراني في الدعاء (33)، وصححه الحاكم (1/492)، وتعقبه الذهبي بأن في سنده من هو مجمع على ضعفه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7739).

14 تحفة الأحوذي (9/374).

15 مجموع الفتاوى (10/330).

16 المصدر نفسه (10/333 -334).

17 أخرجه أحمد (5/277)، والترمذي في القدر (2139)، وابن ماجه في المقدمة (90)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7687).

18 تحفة الذاكرين (29).

19 المصدر نفسه (30).

20 تحفة الأحوذي (6/289).

21 الجواب الكافي (ص16).

 22 أخرجه الإمام الترمذي (3476)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/130).

23 أخرجه الإمام مسلم (2498).

24 أخرجه الإمام البخاري في المغازي (3960).

25 أخرجه البخاري (6343)، ومسلم (894).

26 الأذكار لابن علان (1/17).

27 مجموع الفتاوى (1/336).

28 أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758).

29 أخرجه الترمذي في الدعوات (3499)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (108)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2782).

30 زاد المعاد (1/305).

31 أخرجه أبو داود (1536)، والترمذي (1905)، وابن ماجه (3862) واللفظ له، وأحمد (2/258) وانظر السلسسة الصحيحة للألباني (2/145).

32 جامع العلوم والحكم (1/269).

33 أخرجه البخاري في المغازي (4323)، ومسلم في فضائل الصحابة (2498)

34 رواه أبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات (3556)، وابن ماجه في الدعاء (3865)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1757).