خطر اللسان (1)
الحمد لله المتفضل بالنعم، الغفور الرحيم لمن تاب إليه وأناب، تفضل بالكثير علينا، وقبل منا اليسير، لا شريك له، ولا رب سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فاللسان نعمة عظيمة أنعم الله بها على بني آدم، فبه المنطق والبيان: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4]، واللسان سلاح ذو حدين، به يكون ذكر الله ، وقراءة القرآن، وبه تكون الغيبة، والنميمة، والقذف، والبهتان – والعياذ بالله -، وسنذكر بعضاً من الأدلة من الكتاب والسنة على أن الإنسان مسؤول عن كل كلمة يقولها، مع بيان خطر اللسان.
عبد الله: هل قرأت القرآن ومرّ بك قول الله : مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، هل تفكرت أخي الكريم في هذه الآية؟ إنها الضابط الشرعي، والواعظ الكبير: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
أسمعت يا عبد الله؟ إنها رقابة شديدة دقيقة رهيبة تطبق عليك إطباقاً شاملاً كاملاً، لا تـُغفل من أمرك دقيقاً ولا جليلاً، ولا تفارقك كثيراً ولا قليلاً، كل نفَس معدود، وكل هاجسة معلومة، وكل لفظ مكتوب، وكل حركة محسوبة، في كل وقت، وكل حال، وفي أي مكان، عندها قل ما شئت، وحدِّث بما شئت، وتكلم بمن شئت، ولكن اعلم أن هناك من يراقبك، اعلم أن هناك من يسجل، وأنه يعد عليك الألفاظ: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18].
إنها تعنيني وتعنيك أخي في الله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ هذه الآيات تهز النفس هزاً، وترجها رجاً، وتثير فيها رعشة الخوف، الخوف من الله .
واسمع لواعظ الله تعالى تقرع سمعك آياته، وتهز قلبك إن كان قلباً مؤمناً يخاف الله : وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:12]، وقال: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب:58]، وقال: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]، وقال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، فربك راصد ومسجل لكلماتك، ولا يضيع عند الله شيء.
يا أيها المظلوم: أما آن لك أن تطمئن بهذه الآية فلا تخف، ولا تجزع، فإن ربك بالمرصاد لمن أطلقوا العنان لألسنتهم في أعراض العباد، بالمرصاد للطغاة والمفسدين، فلا تجزع ولا تحزن أخي في الله فقد قال الله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[الزلزلة:7-8]، وقال: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء:94]، وقال: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا[النساء:110].
ولتـزداد بيّنة وعلماً في خطر هذا اللسان الذي بين لحييك فاسمع لهذه الأحاديث باختصار:
عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم1، وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق2 متفق عليه، وفي رواية لمسلم: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب3، ومعنى ما يتبين فيها أي: لا يتدبرها ويتفكر في قبحها، ولا يخاف ما يترتب عليها، وهذا كالكلمة عند السلطان وغيره من الولاة، أو معناه كالكلمة التي يترتب عليها إضرار بمسلم كشهادة الزور وغير ذلك.
فكم من أناس شغلهم الشاغل في مجالسهم وهمهم الأكبر فلان وفلان، همهم بث الكلمات، ونشر الشائعات، وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم، ولا شك أن فساد المجالس بسبب قلة العلم والاطلاع، وقد ضمن النبي عليه الصلاة والسلام الجنة لمن حفظ لسانه عن البذاءة والفحش فعن سهل بن سعد عن رسول الله ﷺ قال: من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة4 وروي عنه بلفظ: من توكل لي ما بين رجليه وما بين لحييه توكلت له بالجنة5.
وهذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى اليوم بين كثير من الناس، إسهال فكري، وإسهال كلامي أصاب مجالس المسلمين اليوم، وإنك تجلس الكثير من المجالس وربما لم يمر عليك يوم من الأيام، أو ليلة من الليالي؛ إلا وجلست مجلساً فبماذا خرجت من هذه المجالس؟ وما هي النتيجة؟ ما هي الثمرة من هذه المجالس التي جلستها؟
لا شك أن هذا أثر من آثار الجهل الذي انتشر بين المسلمين اليوم، وقلة البركة، حيث أصبح العلم مصدر رزق الكثير من الناس، ولذلك تجد في المجلس الواحد كثير من المتعلمين والمثقفين، ومع ذلك يذهب المجلس هباءً بدون فائدة، بل ربما ذهب – والعياذ بالله – بالآثام وجمع السيئات.
وفي حديث معاذ الطويل قال قال النبي ﷺ: ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروته وسنامه؟ قلت: بلى يا نبي الله،فأخذ بلسانه، قال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم6، وبعض الناس قد يجهل أنه سيؤاخذ بكل كلمة تكلم بها خيراً أو شراً. وفي حديث سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال في آخره: ((قلت يا رسول الله, ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه وقال: هذا))7.
ثم يوجه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأمته ويعطيهم قاعدة شرعية ومعياراً دقيقاً تقطع الشك والتردد والحيرة، جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))8.
فانظر أخي الكريم إلى التربية النبوية من النبي الكريم ﷺ، وربط القلوب باليوم الآخر، ولأن النفوس اليوم غفلت عن اليوم الآخر، وتعلقت بالدنيا، وشهواتها، ولذاتها، وغفلت عن التربية النبوية، ونسيت الحساب والعذاب، ونسيت الجنة والنار وغفلت عنها … وبالتالي انطلق اللسان في لحوم العباد وأعراضهم بدون ضوابط، وبدون خوفٍ، ولا مراقبة.
أخي الكريم: اعلم أنه لا يصح أبداً أن يؤذي المسلم إخوانه المسلمين بلسانه، ولأن المسلم الصادق المحب الناصح هو من سلم المسلمون من لسانه ويده كما ورد ذلك في السنة من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي ﷺ قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه9.
والأحاديث في الباب كثيرة مستفيضة.
وأخيراً: كم نحن بحاجة لمن يردد هذه الأحاديث على مسامع الناس، كم نحن بحاجة لمن يذكر الناس أمثال هذه الأحاديث ليتذكروها، ويعوها وليفهموها جيداً، حتى تتذكر النفس كلما أراد اللسان أن ينطلق بكلمة يحسب لها حسابها قبل أن يخرج لسانه بهذه الكلمات. أسأل الله العظيم بمنه وكرمه أن يحفظ ألسنتنا من الكذب، والغيبة، والنميمة، ومن الكلام إلا في الخير، وأن يحفظ جوارحنا عن الحرام إنه على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
1 رواه البخاري (5 /2377) رقم (6113).
2 صحيح البخاري (5 /2377) رقم (6221)؛ وصحيح مسلم (4 /2290) رقم (2988).
3 رواه مسلم (4 /2290) رقم (2988) من حديث أبي هريرة .
4 رواه البخاري (5 /2376) رقم (6109).
5 رواه البخاري (6 /2497) رقم (6422).
6 رواه الترمذي (5 /11) رقم (2616)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ وأحمد بن حنبل في المسند (5 /231) رقم (22069)؛ وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (2 /138) رقم (413)؛ وصحيح وضعيف سنن الترمذي (6 /116) رقم (2616)؛ والسلسلة الصحيحة (3 /114) رقم (1122) وقال: صحيح بمجموع طرقه.
7 رواه الترمذي في سننه (4 /607) رقم (2410)؛ ومسند أحمد بن حنبل (3 /413) رقم (15457) وقال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3 /56) رقم (2862).
8 رواه البخاري (5 /2240) رقم (5672)؛ ومسلم (1 /68) رقم (47).
9 رواه البخاري (1 /13) رقم (10)، ومسلم (1 /65) رقم (41).