كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن قيام الليل له فضل عظيم، فهو أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة، وهو صفة من صفات عباد الله المتقين، وسبب من أسباب دخول جنة رب العالمين، وسمة من سمات الأنبياء والصالحين؛ قال اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان: 64]، وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات: 17]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة: 16-17]، وفي حديث عبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَمٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قوله عليه الصلاة والسلام: ((أَيُّهَا النَّاسُ: أَفْشوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا باللَّيْل وَالنَّاسُ نِيامٌ؛ تَدخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ))1. وَعنْ أَبي هُريرةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((أَفْضَلُ الصيَّامِ بعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بعدَ الفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْل))2. وَعَن عائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتى تَتَفطَّر قَدَمَاه، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رسُول اللَّهِ وَقد غُفِرَ لَكَ ما تَقَدَّم مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: ((أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا))3. بقيام الليل تزيد الوجوه حسناً وجمالاً؛ قيل للحسن رحمه الله: "ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلو بالرحمن؛ فألبسهم نوراً من نوره". وهي صلاة لا يعرف قدرها إلا من جربها، ودوام عليها، فإن بها اللذة والسعادة والأنس؛ قال ثابت البناني رحمه الله: "ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل". وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "لأهل الطاعة بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا". وقال ابن المنكدر رحمه الله: "ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة". صلاة في الليل كان النبي يداوم عليها، ويحث أهل عليها، وسائر أمته عليها؛ فعَنْ عليٍّ رَضِيَ اللَّه عنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم طَرقَهُ وَفاطِمَةَ لَيْلاً، فَقَالَ: ((أَلا تُصلِّيَانِ؟))4. ومعنى: (طرقَةُ) أي أَتَاهُ ليْلاً. وقد ذكر عنده صلى الله عليه وسلم الرجل ينام حتى يصبح، ولا يقوم من الليل، فقال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه-أَو قال-: في أُذنِه))5. وبقيام الليل يصبح الإنسان نشيطاً طيب النفس، وإن لم يقم من الليل كان على عكس ذلك؛ فعن أَبي هُريرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهُ أَنَّ رسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قالَ: ((يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلى قافِيةِ رَأْسِ أَحَدِكُم، إِذا هُوَ نَامَ، ثَلاثَ عُقدٍ، يَضرِب عَلى كلِّ عُقدَةٍ: عَلَيْكَ ليْلٌ طَويلٌ فَارقُدْ، فإِنْ اسْتَيْقظَ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى انحلَّت عُقْدَةٌ، فإِنْ توضَّأَ انحَلَّت عُقدَةٌ، فَإِن صلَّى انحَلَّت عُقدُهُ كُلُّهَا، فأَصبَحَ نشِيطاً طَيِّب النَّفسِ، وَإِلاَّ أَصبح خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ))6. وقافِيَةُ الرَّأْسِ: آخِرُهُ.
وصلاة الليل لها كيفيات متددة، والكيفية المشهورة أنها تصلى إحدى عشرة ركعة، ركعتين، ركعتين، ثم تختم بركعة واحدة؛ فعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَن النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: ((صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذا خِفْتَ الصُّبْح فَأَوْتِرْ بِواحِدَةِ))7. والأفضل في صلاة الليل أن يطال قيامها وركوعها وسجودها تأسياً بصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فَعَنْ عائِشة رضي اللَّه عنْهَا أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كَان يُصلِّي إِحْدَى عَشرَةَ رَكْعَةً -تَعْني في اللَّيْلِ- يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذلكَ قَدْر مَا يقْرَأُ أَحدُكُمْ خَمْسِين آية قَبْلَ أَن يرْفَعَ رَأْسهُ، ويَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْل صَلاةِ الفَجْرِ، ثُمَّ يضْطَجِعُ على شِقِّهِ الأَيمْنِ حَتَّى يأْتِيَهُ المُنَادِي للصلاةِ8. وعَن ابنِ مَسْعُودٍ رضِي اللَّه عَنْهُ قَالَ: صلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم لَيُلَةً، فَلَمْ يَزلْ قائماً حتى هَمَمْتُ بِأَمْرٍ سُوءٍ. قَيل: ما هَممْت؟ قال: هَممْتُ أَنْ أَجْلِس وَأَدعهُ9. وعَنْ حُذيفَهَ رَضِيَ اللَّه عنْهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ذاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَح البقَرَةَ، فقلتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المِئَةِ، ثُمَّ مضى، فقلتُ: يُصَلِّي بها في ركْعَةٍ، فمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بها، ثُمَّ افْتَتَح النِّسَاءَ فَقَرأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آل عِمْرَانَ، فَقَرَأَها، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذا مَرَّ بِآيَةِ فِيها تَسْبيحٌ سَبَّحَ، وَإِذا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وإذا مَرَّ بتَعوَّذ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فجعَل يَقُولُ: سُبْحَانَ ربِّي العظيمِ، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْواً مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قال: سمِع اللَّه لمَنْ حَمِدَه، رَبَّنَا لك الحْمدُ، ثُمَّ قامَ طَويلاً قَرِيباً مِمَّا ركع، ثُمَّ سَجد فَقَالَ: سُبْحانَ رَبِّيَ الأَعْلى، فَكَانَ سَجُودُهُ قَرِيباً مِنْ قِيَامِهِ10. وَعَنْ جابرٍ رضِي اللَّه عنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: أَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَلُ؟ قال: ((طُولُ القُنُوتِ))11. المرادُ بِالقنُوتِ: القِيَامُ. ويستحب أنه إذا قام يصلي من الليل أن يفتتح قيامه بركعتين خفيفتين؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْها قالت: كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إِذا قام مِن اللَّيْلِ افتَتَحَ صَلاتَهُ بِرَكْعَتَيْن خَفيفَتَيْنِ12. وعَنْ أَبي هُريرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: ((إِذا قَامَ أَحَدُكُمِ مِنَ اللَّيْلِ فَليَفتَتحِ الصَّلاةَ بِركعَتَيْن خَفيفتيْنِ))13. ووقت قيام الليل يبدأ من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وأفضل وقته الثلث الأخير من الليل؛ فعن عائشة رضي الله عنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كانَ يَنَامُ أَوَّل اللَّيْل، ويقومُ آخِرهُ فَيُصلي14. وَعَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرو بنِ العَاصِ رَضيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: ((أَحَبُّ الصَّلاةِ إلى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُدَ، وَأَحبُّ الصيامِ إلى اللَّهِ صِيامُ دَاوُدَ، كانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْل، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، ويَنَامُ سُدُسَهُ، وَيصومُ يَوماً وَيُفطِرُ يَوماً))15. وذلك أنَّ في الثلث الليل الأخير ينزل رب العزة والجلال إلى السماء الدنيا نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وعظمته؛ كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتنزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له))16. وفي الليل الساعة من وفق لها فقد وفق لخيري الدنيا والآخرة؛ فعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّه عنْهُ قَالَ: سمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقُولُ: ((إِنَّ في اللَّيْلِ لَسَاعةً، لا يُوافقُهَا رَجـُلٌ مُسلِمٌ يسأَلُ اللَّه –تعالى- خيراً من أمرِ الدُّنيا وَالآخِرِةَ إِلاَّ أَعْطاهُ إِيَّاهُ، وَذلكَ كلَّ لَيْلَةٍ))17. وإذا اعتاد الإنسان على قيام الليل فنام ذات ليلة ولم يقم، فله أن يقض في النهار؛ فعن عائشة رضي الله عَنْها قالَتْ: كان رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إِذا فاتتْهُ الصَّلاةُ من اللَّيل مِنْ وجعٍ أَوْ غيرِهِ، صَلَّى مِنَ النَّهارِ ثِنَتي عشَرة ركْعَة18. وعنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي اللَّه عنْهُ قَال: قَالَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((مَنْ نَام عن حِزْبِهِ، أو عَنْ شْيءٍ مِنهُ، فَقَرأهُ فِيما بينَ صَلاِةَ الفَجْرِ وصَلاةِ الظُّهْرِ، كُتِب لهُ كأَنَّما قَرَأَهُ منَ اللَّيْلِ))19. نسأل أن يوفقنا لقيام الليل، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
1 رواهُ الترمذيُّ (1855) وقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وصححه الألباني.
2 رواه مُسلِمٌ (1163).
3 متفق عليه.
4 متفق عليه.
5 متفق عليه، من حديث ابن مَسْعُودٍ-رضيَ اللَّه عنْهُ-.
6 متفق عليه.
7 متفقٌ عليه.
8 رواه البخاري.
9 متفقٌ عليه.
10 رواه مسلم.
11 رواه مسلم.
12 رواه مسلم.
13 رواه مسلم.
14 متفقٌ عليه.
15 متفق عليه.
16 رواه البخاري ومسلم.
17 رواه مسلم.
18 رواه مسلم.
19 رواه مسلم.