تفسير سورة الفلق
الحمد لله رب العالمين الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
يقول الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
أولاً: معاني السورة: (الفلق): هو الصبح في قول جماهير المفسرين، واستدلوا بقوله تعالى: (فالق الإصباح) فالمعنى على هذا أن الله أمر النبي والمسلمين بالاستعاذة برب الصبح والإضافة هنا للتشريف.
وقال ابن عباس – في رواية عنه-: الفلق: الخلق، وهكذا قال الضحاك.
وقال كعب الأحبار: بيت في جنهم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره.
وقال أبو عبد الرحمن الحبلي: الفلق من أسماء جهنم..
قال ابن جرير: والصواب القول الأول أنه فلق الصبح..
قال ابن كثير وهذا هو الصحيح وهو اختيار البخاري في صحيحه..
وقد ذكر القرطبي أقوالاً أخرى، ومنها: قال ابن عمر: شجرة في النار، وقال سعيد بن جبير: جُبٌّ في النار.. وقيل: الفلق: الجبال والصخور، تنفلق بالمياه، أي تتشقق، وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور؛ لأنها تنشق من خوف الله – عز وجل -.
وقيل الرحم تنفلق بالحيوان، وقيل: إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحب والنوى، وكل شيء من نبات وغيره؛ قاله الحسن البصري وغيره. قال الضحاك: الفلق الخلق كله؛ قال:
وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق *** سراً وقد أوَّن تأوين العقق
وقد رجح هذا القول القرطبي- رحمه الله -: أنه كل ما انفلق من الخلق، قال: ( هذا القول يشهد له الاشتقاق؛ فإن الفلق الشق، فلقت الشيء فلقاً، أي شققته، والتفليق مثله، يقال: فلقته فانفلق وتفلق، فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء، فهو فلق، قال الله – تعالى-: ((فالق الإصباح)) وقال: ((فالق الحب والنوى)) وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي:
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق *** هاديه في أخريات الليل منتصب
يعني بالفلق هنا: الصبح بعينه1.
والخلاصة: أن الذي يجمع تلك الأقوال هو ما ذكره القرطبي وأيده؛ لدلالة اللغة عليه والقرآن الكريم، وهو ما ذكر عن الحسن والضحاك، وغيرهما رحمهما الله تعالى وهو يجمع القول الأول وغيره.
وقوله تعالى: ((من شر ما خلق)) أي من شر جميع المخلوقات.
وقيل: هو إبليس وذريته، وقيل: جهنم.. والأول أولى؛ لجمعه كل الشرور التي يستعاذ منها، سواء كانت شرور بني آدم أو الجن أو عذاب جهنم فإنه شر محض.
وقوله تعالى: ((ومن شر غاسقٍ إذا وقب)) الغاسق: هو الليل، فإن الليل تنتشر فيه جميع الهوام والوحوش والحيوانات السامة؛ فلهذا أمر الإنسان أن يلتجئ إلى الله بأن يحفظه من تلك الشرور والمهلكات..
وقوله: (إذا وقب) أي إذا أظلم.
وقد ذكرت أقوال أخرى يعود معظمها إلى معنى القول هذا، والله أعلم..
وقوله تعالى: ((ومن شر النفاثات في العقد)) النفاثات هنَّ السواحر اللاتي ينفثن في عقد السحر.. وذلك أن السحرة – قبحهم الله- إذا أرادوا سحر أحد عقدوا من شعره أو من أي شيء عقداً معلومة ونفثوا فيها، برقىً من رقى السحر، وقرؤوا عليها طلاسم غير معروفة ولا معقولة؛ فبهذا يحصل السحر بأنواعه.. والنفث هو: النفخ بالفم مع إخراج رذاذ بسيط..
قال أبو عبيدة: النفاثات هن بنات لبيد بن الأعصم اليهودي سحرن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: ((ومن شرِّ حاسدٍ إذا حسد)).
استعاذة ولجوء إلى الله تعالى؛ من شر الحاسد إذا حسد على النعمة.
والحسد هو: أن يتمنى العبد زوال النعمة عن الغير، وهذا مذموم وصاحبه ملعون ومطرود مبغوض. ولقد أحسن من قال:
قل للحسود إذا تنفس طعنةً *** يا ظالماً وكأنه مظلومُ2
والحسد لا يكون إلا في اثنتين؛ كما جاء في الحديث: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) الحديث في الصحيحين.
والغبطة تختلف عن الحسد فهي: أن يتمنى الإنسان أن يكون معه مثل ما مع غيره من النعمة.. والفارق بينهما واضح: فالحسد أن يتمنى زوال النعمة، والغبطة لا يتمنى زوال النعمة؛ ولكنه يحب أن يكون له مثلها..
والسبب في إفراد – الغاسق والنفاثات والحاسد- بالتعوذ منها مع ذكره أولاً عموم الشر بقوله: (من شر ما خلق) هو: أن هذه الأمور لما كان شرها بيناً ومتوقعاً بكثرة، وله تأثير شديد على الإنسان خصصت بالاستعاذة منها.. يقول الشوكاني رحمه الله: (ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة من شر كلِّ مخلوقاته على العموم؛ ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم؛ لزيادة شره ومزيد ضره، وهو الغاسق والنفاثات والحاسد؛ فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشر حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر)3.
المعنى الإجمالي:
استعيذ بالله وألتجئ إليه من شر خلقه جميعاً؛ وأخص من ذلك الأمور الآتية لمزيد شرها: فأستعيذ به من شر الليل إذا أقبل وأظلم؛ لما فيه من الفجائع والمخاوف، وأستعيذ بالله تعالى من شر السواحر اللاتي ينفثن بريقهن في عقد السحر، وألجأ إلى الله من شر كل حاسد نعمة إذا أظهر حسده بقوله أو فعله.
فضل هذه السورة:
1. أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلت عليَّ الليلة آيات لم أرَ مثلهن قط "قل أعوذ برب الفلق" و"قل أعوذ برب الناس").
2. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أقرئني سورة يوسف، وسورة هود، قال: (يا عقبة اقرأ بـ "قل أعوذ برب الفلق" فإنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله وأبلغ منها، فإذا استطعت ألا تفوتك فافعل). رواه النسائي والحاكم وصححه.
3. وأخرج ابن سعد والنسائي والبغوي والبيهقي عن أبي عابس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا عابس أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟!) قال: بلى يا رسول الله! قال: ("قل أعوذ برب الفلق" و"قل أعوذ برب الناس" هي المعوذتان)، صححه الألباني.
4. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشفي بهن من كل شيء: روى البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما وقرأ فيهما (قل هو الله أحد – وقل أعوذ برب الفلق- وقل أعوذ برب الناس) ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات) ورواه أهل السنن.
مسألة: أجمع المسلمون على أن سورة الفلق والناس من القرآن، وما ذكر عن ابن مسعود أنه لم يعتبرهما من القرآن لم يتابعه عليه أحد غيره، ثم إنه قد رجع إلى قول عامة الصحابة كما ذكر ابن كثير رحمه الله.
ويستدل الروافض بهذا المقام على أن القرآن انتقصت منه آيات؛ وأثبتوا تحريفه بمثل هذه الآثار والروايات؛ وقبحهم الله ما أجرأهم على التكذيب والجحود مع أنهم يعلمون قول الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، والحفظ يقتضي ألا يزاد عليه ولا ينقص منه.. وقول ابن مسعود هذا غاية ما يدل على أن ابن مسعود فهم أن المعوذتين من جملة ما يتعوذ به من الأذكار وليستا من القرآن… فاشتبه عليه الأمر، ومعلوم أنه عند الاشتباه يرجع فيه إلى المحكم من القرآن، أو المفسر له من السنة.. وقد أجمع المسلمون على أن القرآن محفوظ بحفظ الله إلى قيام الساعة؛ ولم يخالف إلا الروافض كما هو مثبت في كتبهم.. هذا على قول من عدهم أنهم مسلمون.. وأما من كفرهم بمثل هذه الأقاويل المثبتة في تاريخهم الأسود؛ فإنه لم يعد خلافهم إلا من جنس طوائف المشركين الأخرى الخارجة عن الإسلام.. كما قال ابن تيمية عن النصيرية – فرقة من فرق الشيعة-: "هم أشد كفراً من اليهود والنصارى" والله أعلم.
ونخلص مما سبق إلى النقاط التالية:
1. استحباب الاستشفاء بالمعوذتين.
2. بلاغة كلام الله، ويتضح من خلال جمع هذه السورة الأمور الكثيرة بألفاظ يسيرة دالة على عظمة اللطيف الخبير..
3. تخصيص الاستعاذة من الغاسق وهو الليل، ومن النفاثات، ومن الحاسد؛ لزيادة الشر فيها، وقوة تأثيرها في الغالب على الإنسان..
4. الالتجاء إلى الواحد الأحد الذي يملك النفع والضر وحده لا شريك له، ويكون ذلك في كل حين ليلاً ونهاراً؛ ولهذا جاء عن عقبة بن عامر أنه قال: (أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني.
نسأل الله تعالى أن يحفظنا من شرور الإنس والجن؛ ونعوذ به من كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير إنه أرحم الراحمين.
والله أعلم..