الله الله في الصلاة

الله الله في الصلاة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مثيل له، ولا ضد ولا ند له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وحبيبه، صلى الله عليه، وعلى كل رسول أرسله، أما بعد:

أيها المسلمون: لقد أنعم الله عليكم بنعم سابغة، وآلاء بالغة، نِعَمٌ ترفلون في أعطافها، ومِنَنٌ أسدلت عليكم جلابيبها.

وإن أعظم نعمة، وأكبر منَّة نعمة الإسلام والإيمان يقول تبارك وتعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] فاحمدوا الله كثيراً على ما أولاكم وأعطاكم، وما إليه هداكم، حيث جعلكم من خير أمة أخرجت للناس، وهداكم لمعالم هذا الدين العظيم الذي ليس به التباس.

ألا وإن من أظهر معالمه، وأعظم شعائره، وأنفع ذخائره؛ الصلاة ثانية أعظم أمور الإسلام ودعائمه العظام.

هي بعد الشهادتين آكد مفروض، وأعظم معروض، وأجلُّ طاعة، وأرجى بضاعة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع يقول النبي  : رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة1.

جعلها الله قرة للعيون، ومفزعاً للمحزون، فكان رسول الهدى  إذا حزبه أمر صلى، – أي إذا نابه وألمَّ به أمر شديد صلى، ويقول عليه الصلاة والسلام: وجعلت قرة عيني في الصلاة2. وكان ينادي: يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها3، فكانت سروره وهناءة قلبه، وسعادة فؤاده، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

هي أحسن ما قصده المرء في كل مهم، وأولى ما قام به عند كل خطب مدلهم، خضوع وخشوع، وافتقار واضطرار، ودعاء وثناء، وتحميد وتمجيد، وتذلل لله العلي الحميد.

أيها المسلمون: الصلاة هي أكبر وسائل حفظ الأمن، والقضاء على الجريمة، وأنجع وسائل التربية على العفة والفضيلة: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].

هي سر النجاح، وأصل الفلاح، وأول ما يحاسب العبد به يوم القيامة من عمله، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر.

المحافظة عليها عنوان الصدق والإيمان، والتهاون بها علامة الخذلان والخسران.

طريقها معلوم، وسبيلها مرسوم، من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان لعظم ذنبه.

من حافظ على هذه الصلوات الخمس فأحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، فأتم ركوعهن، وسجودهن، وخشوعهن؛ كان له عند الله عهد أن يغفر له.

الصلاة معاشر المؤمنين: نفحات ورحمات، وهبات وبركات، بها تكفر صغائر السيئات، وترفع الدرجات، وتضاعف الحسنات يقول رسول الهدى  : أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا4.

إنها العبادة التي تشرق بالأمل في لجة الظلمات، وتنقذ المتردي في درب الضلالات، وتأخذ بيد البائس من قعر بؤسه، واليائس من درك يأسه إلى طريق النجاة والحياة: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ[هود: 114].

أيها المسلمون: إن مما يندى له الجبين، ويجعل القلب مكدراً حزيناً؛ ما فشا بين كثير من المسلمين من سوء صنيع، وتفريط وتضييع لهذه الصلاة العظيمة، فمنهم التارك لها بالكلية، ومنهم من يصلي بعضاً ويترك البقية.

بل خف في هذا الزمان ميزانها عند كثير من الناس، وعظم هجرانها، وقلَّ أهلها، وكثر مهملها يقول الزهري – رحمه الله تعالى -: “دخلت على أنس بن مالك  خادم رسول الله  بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فذكر أن سبب بكائه أن هذه الصلاة قد ضيعت”.

أيها المسلمون: إن من أكبر الكبائر، وأبْيَنِ الجرائر؛ ترك الصلاة تعمداً، وإخراجها عن وقتها كسلاً وتهاوناً يقول النبي  : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة5.

أيها المسلمون: إن التفريط في أمر الصلاة من أعظم أسباب البلاء والشقاء، ضنك دنيوي، وعذاب برزخي، وعقاب أخروي: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].

فيا عبد الله: كيف تهون عليك صلاتك وأنت تقرأ الوعيد الشديد في قول الله ​​​​​​​: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ۝ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4-5].

أيها المسلمون: الصلاة عبادة عظمى لا تسقط عن مكلف بالغ عاقل بحال، ولو في حال الفزع والقتال، ولو في حال المرض والإعياء، ولو في حال السفر ما عدا الحائض والنفساء؛ يقول تبارك وتعالى: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238].

أقيموا الصلاة لوقتها، وأسبغوا لها وضوءها، وأتموا لها قيامها وخشوعها، وركوعها وسجودها، تنالوا ثمرتها وبركتها، وقوتها وراحتها يقول عليه الصلاة والسلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله6، أمره الله أن يقاتل هذا الإنسان حتى يسجد لله، فالمفاصلة بين الإنسان وبين الدين يوم أن يتهاون أو يترك الصلاة، أو يتنكر للصلاة، أو لا يتعرف على بيت الله، أو لا يسجد لله، حينها يصبح هذا الإنسان لا قداسة له، ولا حرمة أو مكانة، أو قيمة.

حضرت رسول الله عليه الصلاة والسلام معركة الأحزاب – قبل أن تنزل صلاة الخوف – فقام يقاتل المشركين ويجاهدهم، دمه يثعب من جراحه في مخاصمة لأعداء الله، فشُغِلَ عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فلما غربت الشمس قال  لعمر  : ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس7 ثم قام عليه الصلاة والسلام فصلاها، فأنزل الله صلاة الخوف، وهذه الصلاة يصليها الخائف في صف القتال، يصليها الذي يمتطي الدبابة، والمريض على السرير، والجريح وهو في جراحه، ولا يعذر أحد بعذر.

إن تأخير الصلاة عن وقتها معناه النفاق الصريح الذي وقع فيه كثير من الناس إلا من رحم الله يقول عليه الصلاة والسلام وهو في سكرات الموت: الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم8.

أيُّ دين بلا صلاة؟

ما معنى لا إله إلا الله؟! وما معنى الانتساب إلى الإسلام بلا صلاة؟! وأين الصدق مع الله؟

صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناسٍ لا يشهدون الصلاة معنا فأحرَّق عليهم بيوتهم بالنار9، وعند أحمد: والذي نفسي بيده، لولا ما في البيوت من النساء والذرية؛ لحرقت عليهم بيوتهم بالنار لماذا؟ لأنهم أصبحوا في عداد المنافقين، يتذرعون بالإسلام ولكن لا يصلون الجماعة مع الناس، ويدَّعون لا إله إلا الله.

سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الأعمال فقال: الصلاة لوقتها10، ويقول عليه الصلاة والسلام: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر11، يقول ابن مسعود  : “والذي نفسي بيده لقد كان يؤتى بالرجل يهادى به بين الرجلين من المرض حتى يقام في الصف”.

وجاء “أن أحد التابعين واسمه ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير وهو في مرض الموت سمع أذان المغرب، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت مريض، وقد عذرك الله، قال: لا إله إلا الله، أسمع حيّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح؛ وأصلي في البيت، والله لتحملوني إلى المسجد، فحملوه إلى المسجد، فلما سجد السجدة الأخيرة من صلاة المغرب قبض الله روحه”، يقول أهل العلم: كان هذا الرجل في حياته إذا صلى الفجر يقول: “اللهم إني أسألك الميتة الحسنة” يعني: الجميلة البديعة الرائعة، فقال له بعضهم: ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد.

الميتة الحسنة: أن يتوفاك ربك بعد فريضة، أو في صف الجهاد في سبيل الله، أو على طهارة، أو في السجود، أو في طلب العلم … أو في غيرها من مواطن الخير.

وهذا سعيد بن المسيب عالم التابعين كان بيته في أقصى المدينة، وكان يأتي في ظلام الليل إلى مسجد المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقال له إخوانه: “خذ سراجاً لترى به الطريق في ظلام الليل، قال: يكفيني نور الله”: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] ولذلك في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: بَشِّرِ المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة12.

وكان سعيد بن المسيب عالم التابعين على عين واحدة، ذهبت عينه من كثرة البكاء في السحر خشية من الله، وكان يذهب بهذه العين في ظلام المدينة إلى المسجد، يقول في سكرات الموت وهو يتبسم: “والله ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في المسجد”.

وودع عمر   سعداً  إلى القادسية فأخذه إلى جنب وقال: “يا سعد! أوصِ الجيش بالصلاة، الله الله في الصلاة، فإنكم إنما تهزمون بالمعاصي، فأوصهم بالصلاة”.

وكان سلفنا الصالح إذا حضر الخوف، وسلت السيوف، وأشرعت الرماح، وتنزلت الرءوس من على الأكتاف؛ تركوا الصفوف لطائفة، وقامت طائفة تصلي:

نحن الذين إذا دُعُوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جَامَاً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا

اللهم وفقنا للمحافظة على الصلاة في أوقاتها، واغفر لنا ذنوبنا، وكفِّر عنا سيئاتنا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1 رواه الترمذي برقم (2541)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2616).

2 رواه النسائي برقم (3878)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (3124).

3 رواه أبو داود برقم (4333)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم ( 4985).

4 رواه البخاري برقم (497).

5 رواه مسلم برقم (116).

6 رواه البخاري برقم (24).

7 رواه البخاري برقم (2714).

8 رواه أحمد برقم (25278)، وصححه الارنأووط في تعليقه على المسند برقم (12190).

9 رواه البخاري برقم (2242).

10 رواه البخاري برقم (6980).

11 رواه الترمذي برقم (2545)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2621).

12 رواه الترمذي برقم (207)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (223).