القرآن يا أهل القرآن

 

 

القرآن يا أهل القرآن

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

“القرآن – بأي اسم سميته – هو الكلام المعجز المنزل على النبي  ، المكتوب في المصاحف، المنقول عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته، وتعريف القرآن على هذا الوجه متفق عليه بين الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية”1.

وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته عز وجل كما صح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : ((إِنَّ لِلَّهِ عَزَّوَجَلَّ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ، قَالَ: قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ))2، ومعنى أن “أهل القرآن هم أهل الله وخاصته: أي حفظة القرآن العاملون به هم أولياء الله، المختصون به اختصاص أهل الإنسان به، سموا بذلك تعظيماً لهم كما يقال “بيت الله”، قال الحكيم: وإنما يكون هذا في قارئ انتفى عنه جور قلبه، وذهب جناية نفسه، فأمنه القرآن، فارتفع في صدره، وتكشف له عن زينته ومهابته، فمثله كعروس مزين مد يده إليها دنس متلوث متلطخ بالقذر، فهي تعافه وتتقذره، فإذا تطهر وتزين وتطيب فقد أدى حقها، وأقبلت إليه بوجهها، فصار من أهلها، فكذا القرآن ليس من أهله إلا من تطهر من الذنوب ظاهراً وباطناً، وتزين بالطاعة كذلك، فعندها يكون من أهل الله، وحرام على من ليس بهذه الصفة أن يكون من الخواص، وكيف ينال هذه الرتبة العظمى عبدأبق من مولاه، واتخذ إلهه هواه؟ {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الأعراف:146]”3.

هذه هي صفة المسلمين الذين نزل القرآن فيهم، وبُعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بلادهم، فالواجب على كل أحد أن يسعى ليتصف بهذه الصفة، وأن يكون من أهل الله عز وجل ليفوز بخير الدنيا، وفلاح الآخرة.

ألا وإن القرآن العظيم اليوم يشكو أهلَهُ من كثرة مكوثه في الرفوف، وكثرة الغبار الذي خيَّم عليه، في حين أن أبناءه معرضين أشد الإعراض عنه – لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم -.

وإن الحديث عن هجر القرآن، والبعد عنه؛ لم يأت اعتباطاً، واختيار هذا الموضوع هو من الأهمية بمكان؛ لأنه لا يعد من الترف الفكري، بل أصبح في الحقيقة من المواضيع التي تلامس واقع المسلمين، وتصلح أحوالهم، وما نراه اليوم من التردي الواضح في أحوال المسلمين راجع إلى البعد الكبير عن هذا القرآن وهجره، وهو من أهم أسباب انحطاط الأمة.

وهجر القرآن الكريم لا يعني هجر تلاوته فحسب، بل الأمر أكبر من ذلك وأعم، فإن هجر القرآن يدخل فيه ما يلي:

· هجر تلاوته: حيث جاءت النصوص المحذرة من هجر التلاوة، ومرغبة في تعاهد القرآن بالتلاوة والتدبر، والله عز وجل حكى في كتابه الكريم على لسان نبيه عليه الصلاةوالسلام أنه اشتكى من قومه في هجرهم للقرآن الكريم فقال: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}[ الفرقان: 30]، وحكى عن حال من يعرض فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه: 124]، وجاء الوعيد الشديد لمن فعل ذلك فقال: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}[طه:99-100].

· هجر سماعه: وليقي الإنسان نفسه من أن يقع في هجر القرآن “قال إسحاق بن راهويه: يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوماً لا يقرأ فيها القرآن، فإن ترك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل، والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد”4.

· هجر العمل به، وتحكيمه في الواقع، والتحاكم إليه حين الاختلاف: فالقرآن الكريم هو دستور المسلمين، وهو الحكم فيما اختلفوا فيه من أمور دينهم ودنياهم، ولا يجوز هجره لابتغاء الحكم في غيره، فمن ابتغى الحكمة في غيره أضله الله؛ لأن الله أنزل هذا الكتاب ليكون له الحكم في الأرض، وليرجع إليه الناس في جميع شؤونهم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ}[ المائدة:48] ، ولهذا جاء في النصوص أن من حكم بغيره استحق الخروج من الدين {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة: 44].

· هجر تدبره وفهم معانيه: تدبر القرآن الكريم وتفهم معانيه مطلب شرعي دعا إليه القرآن، وحثّت عليه السنة، وعمل به الصحابة والتابعون ومن بعدهم، وقد ذكر الله عز وجل أنه أنزل القرآن الكريم للذكرى والتدبر فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[ص: 29]، وقرر أن من لم يتدبره، ولم يعِ معانيه كان قلبه مقفلاً فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد: 24]،

وأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقتل من خالف القرآن وعارضه ولم يعمل، ولم يتخذه دستوره في الحياة، حتى ولو كان يقرأه، وهذا حال الخوارج، وذكر النبي   أن في قتلهم أجر لمن قتلهم؛ فعن رَسُولَ اللَّهِ   أنه قَالَ: ((سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ،يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))5.

وبناءً على كل هذا فإنه لا يجوز هجر القرآن، ولا هجر تدبره أو تأمل معانيه وأحكامه، فأين أهل القرآن اليوم؟ وما هو حالهم اليوم مع القرآن؟

إن القلب ليحزن حين يرى من أبناء المسلمين من يحفظ الكثير من الأغاني، وأسماء المغنين والمغنيات، وهو في نفس الوقت لا يحفظ آية واحدة من كتاب الله عز وجل، بل لا يستطيع أن يقرأ آية واحدة قراءة سليمة وصحيحة، وبغض النظر عن الأحكام التجويدية؛ فإنا نقصد مبنى الكلمة، وهذا الواقع المرير هو نتيجة لما قام به الأعداء من غزو فكري وثقافي باسم الحضارة والتقدم لأبنائنا، حتى وصل الحال إلى أن من يتمسك بدينه، ويحفظ كتاب الله عز وجل يعد من يريد العودة إلى العصور الوسطى التي لا تفهم، ولا تعي.

إن المسؤولية الكاملة تقع على الجهات المسؤولة أولاً؛ حيث يجب عليها أن لا تسمح بدخول الأفكار الهدامة إلى بلادنا الإسلامية، وأن تحارب الفساد وأماكنه ومروجيه، وتقع المسؤولية أيضاً على الآباء فلا نعفيهم؛ بل هم من يتحمل مسؤولية ضياع الناشئة، وفساد أخلاقهم، وبعدهم الواضح عن تعاليم ربهم، فالله الله في القرآن وفي تعاهده، والله الله في الاهتمام بكتاب الله عز وجل، فإلى متى سنكون سوقاً سوداء لحثالات أفكار الأعداء الهدامة.

وهنا نسأل سؤالاً: ما المانع من أن نختم القرآن ولو في الشهر مرة واحد؟، ألا وإنه سهل ويسير، وإليكم السبيل: فإن أسهل طريقة لختم كتاب الله عز وجل قراءة صفحتين (أي أربعة أوجه) بعد كل فرض كل يوم، فإذا داوم العبد على هذا فإنه سيختم كُل شهر مرة واحدة، وما فاته في اليوم بسبب انشغال ونحوه يمكنه تداركه في يوم الجمعة، وبهذا نظل في تواصل دائم مع القرآن الكريم.

نسأل الله عز وجل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وجلاء همومنا وغمومنا، وأن يعلي راية الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 مباحث في علوم القرآن صبحي الصالح.

2 رواه أحمد (11844)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/80).

3 فيض القدير (3/67).

4 فتح الباري لابن حجر (9/86).

5 مسلم (1771).