أبغض الرجال إلى الله!

 

 

أبغض الرجال إلى الله!

الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.

نص الحديث:

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ   قَالَ: (إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ)1.

التعريف بصحابي الحديث:

عائشة بنت أبي بكر الصديق، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأمها أم رومان بنت عامربن عويمر بن عبد شمس، تزوجها رسول الله   بمكة قبل الهجرة بسنتين، هذا قول أبي عبيدة، وقال غيره: بثلاث سنين وهي بنت ست سنين، وقيل: بنت سبع، وابتني بها بالمدينة وهي ابنة تسع.

وتوفي عنها   وهي بنت ثمان عشرة سنة، وكان مكثها معه   تسع سنين.

أمر النبي  بالذين رموها بالإفك حين نزل القرآن ببراءتها، فجلدوا الحد ثمانين فيما ذكر جماعة من أهل السير والعلم بالخبر.

قال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.

وتوفيت عائشة سنة سبع وخمسين ذكره المدايني عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه2.

مفردات الحديث:

قوله: (الألد) جمعه اللدد: وهو الأعوج في المناظرة الذي يروغ عن الحق3، وهو المعوج عن الحق المولع بالخصومة والماهر بها. والألد في اللغة الأعوج4.

قوله: (الخصم) الحاذق بالخصومة والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق أو إثبات باطل5.

شرح الحديث:

قوله: (أبغض الرجال إلى الله) قال الكرماني: الأبغض هو الكافر، فمعنى الحديث أبغض الرجال الكفَّار: الكافر المعاند، أو أبغض الرجال المخاصمين.

قال الحافظ ابن حجر: والثاني هو المعتمد، وهو أعم من أن يكون كافراً أو مسلماً، فإن كان كافراً فأفعل التفضيل في حقه على حقيقتها في العموم، وإن كان مسلماً فسبب البغض أن كثرة المخاصمة تفضي غالباً إلى ما يذم صاحبه، أو يخص في حق المسلمين بمن خاصم في باطل، ويشهد للأول حديث: ((كفى بك إثما أن تكون مخاصماً))6.

وقد ورد الترغيب في ترك المخاصمة، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)7. انتهى8.

قوله: (الألد الخصم) قال قتادة: ألد الخصام معناه أنه جدل بالباطل، شديد القصوة في معصية الله، عالم اللسان جاهل العمل9.

ويقول سيد قطب رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}[البقرة: 204].

“هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس، هذا الذي يعجبك حديثه، تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح، {ويشهد الله على ما في قلبه} زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيداً للتجرد والإخلاص، وإظهاراً للتقوى وخشية الله {وهو ألد الخصام}! تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار.

هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره، هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان، حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد”10.

وقال أسعد حومد: وهناك أناس منافقون تعجب المرء حلاوة ألسنتهم، ويتظاهرون بالورع وطيب السريرة، ويشهدون الله على صدق طويتهم وقلوبهم، وقلوبهم في الحقيقة هي أمرُّ من الصبر، فهم يقولون حسناً، ويفعلون سيئاً، وهم شديدو الجدل، لا يعجزهم أن يغشوا الناس بما يظهر عليهم من الميل إلى الإصلاح11.

يقول ابن حجر رحمه الله: هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله  وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمورصناعية مدار أكثرها على آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية ينشأ بسببها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالاً عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعاً من المحال لا يرتضيها البله ولا الأطفال12.

أقسام الجدل:

ينقسم الجدل إلى قسمين:

1- الجدل الممدوح:

وهو الجدل الذي يقصد به تأييد الحق، أو إبطال الباطل، أو أفضى إلى ذلك بطريق صحيح.ومن هذا الجدل ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض على الكفاية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين فهذا واجب على الكفاية منهم، وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم13. وقال رحمه الله أيضا: فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام، وأمر بها في مثل قوله تعالى: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[هود:32]، وقوله:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام: 83]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: 258]، وقوله:{وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125]، وأمثال ذلك فقد يكون واجباً أو مستحباً، وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع14.

2- الجدل المذموم:

وهو الجدل الذي يقصد به الباطل، أو تأييده، أو يفضي إليه، أو كان القصد منه مجرد التعالي على الخصم والغلبة عليه فهذا ممنوع شرعاً، وهو المراد في هذا الموضوع، ويتأكد تحريمه إذا قلب الحق باطلاً، أو الباطل حقاً.

قال ابن تيمية رحمه الله: والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل،والجدل بغير علم، والجدل في الحق بعدما تبين15.

ويدخل في هذا النوع دعوات التقارب ونظريات الخلط بين الأديان فإنَّها من الباطل الصرف؛ كما يدخل فيه كثير من الحوارات الحضارية المعقودة مع أهل الكتاب لما تفضي إليه من الباطل16.

والمخاصمة والجدل بغير الحق من أسباب الضلال:

فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله  : ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)) ثم تلا رسول الله   هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}[الزخرف:58]17.

فقوله: (كانوا عليه) أي على الهدى (إلا أوتوا الجدل) أي أعطوه، والمعنى ما كان ضلالتهم ووقوعهم في الكفر إلا بسبب الجدال، وهو الخصومة بالباطل عناداً أو جحوداً، وقيل: مقابلة الحجة بالحجة، وقيل:المراد هنا العناد، والمراد في القرآن ضرب بعضه ببعض لترويج مذاهبهم، وآراء مشايخهم من غير أن يكون لهم نصرة على ما هو الحق وذلك محرم، لا المناظرة لغرض صحيح كإظهار الحق فإنه فرض كفاية18.

من فوائد الحديث:

1- الترهيب من الشدة في الخصومة.

2- أن انتشار الجدل علامة على الضلال.

3- الجدل والخصومة بالباطل من آفات اللسان التي تسبب الفرقة والتقاطع والتدابر بين المسلمين، والبغض من الله تعالى.

4- أن الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، هو الشخص الذي يبغضه الله تعالى.

5- الألد هو المعوج عن الحق المولع بالخصومة والماهر بها ويدخل في ذلك كثير الجدل بالباطل.

والله أعلم.


1 رواه البخاري برقم (2277) ومسلم برقم (4821)

2 الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/108-109) بتصرف.

3 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: لابن تيمية: دار العاصمة – الرياض: ط1، 1414هـ: (2/70).

4 صحيح البخاري (2/867).

5 صحيح مسلم (4/2054)

6 أخرجه الطبراني في الكبير برقم (11032) وقال الشيخ الألباني: “ضعيف” انظر حديث رقم: (4186) في ضعيف الجامع.

7 رواه أبو داود برقم (4800) وقال الشيخ الألباني: “حسن لغيره” انظر صحيح الترغيب والترهيب برقم (139).

8 فتح الباري (20/ 223).

9 تفسير الرازي (3/217)

10 في ظلال القرآن (1/181)

11 أيسر التفاسير لأسعد حومد (1/211)

12 فتح الباري لابن حجر (20/440)

13 درء تعارض العقل والنقل (1/51-52).

14 المصدر السابق (7 /156).

15 المصدر السابق.

16 رؤية شرعية في الجدال والحوار مع أهل الكتاب (1/34-35).

17 رواه الترمذي (3253) وقال الشيخ الألباني: حسن.

18 تحفة الأحوذي (9/93).