أهمية الوقت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فإن الوقت ينقضي بانقضاء الليل والنهار، وبالتالي فإن ضياع ساعة أو دقيقة من هذا الوقت يعد ضياعاً لجزء من الحياة؛ لذا كان على الإنسان أن يستغل هذا الوقت فيما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخـرة.
وقد اعتنى القرآن الكريم بالوقت عناية بالغة، فقال ربنا ممتناً على عباده بتسخير الليل والنهار لهم: وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:33-34]، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62].
ولعظم الوقت وأهميته نجد أن الله قد أقسم به في سور عديدة من كتابه كما في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [الليل:1-2]، وقال تعالى: وَالْعَصْرِ [العصر:1]، وقال تعالى: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، وقال تعالى: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2] وكما هو معلوم فإن الله عظيم فلا يقسم إلا بما هو عظيم عنده.
وأما السنة فقد بيَّنت أن الوقت هو مما سيسأل عنه الإنسان يوم الحساب فعن معاذ بن جبل أن النبي ﷺ قال: لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن عمله ماذا عمل فيه1.
فحري بالإنسان أن يعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، وليحذر من إهدار وقته – حياته – في معصية الله، أو فيما لا يعود نفعه عليه في الدنيا والآخرة، بل عليه أن يستغل كل ساعات حياته في طاعة الله، وما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، وليكن أحرص ما يكون على وقته وحياته.
ولتكن همته عالية كهمة السلف في حفاظهم على أوقاتهم فهذا أحد السلف حينما قال له أحد الناس: قف نتحدث نحن وإياك برهة من الزمن؟ فأجابه بقوله: “اجعل الشمس تقف حتى أقف”، وهذا ليس من باب التكبر وإنما من باب الحفاظ على الوقت؛ ولأنه علم أن ذلك السائل من البطالين الذين يقتلون أوقاتهم فيما لاينفع.ولما عرف السلف قيمة الوقت حرصوا عليه.
هذا الحسن البصري يقول: “أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم” يقول هذا لمن كانوا في عصره، فكيف لو رآنا ورأى عصرنا ماذا سيقول؟!! وقال أيضاً في موعظة لأصحابه: “ولا يلهينك المتاع القليل الفاني، ولا تربص بنفسك فهي سريعـة الانتقاص من عمرك، فباد أجلك، ولا تقل غداً غداً، فإنك لا تدري متى إلى الله تصير”.
ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء2 حيث يقول: قال الرازي: “وسمعت علي بن أحمد الخوارزمي يقول: سمعت عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: كنا بمصر بسبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ، وبالليل: النسخ والمقابلة، قال: فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقنا سمكاً أعجبنا، فاشتريناه فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس فلم يمكنا إصلاحه، ومضينا إلى المجلس فلم ننزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام، وكاد أن يتغير فأكلناه نياً، لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
ويحكي أبو الوفاء بن عقيل عن نفسه فيقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعـة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين3.
ويقول أيضاً: وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفراً على المطالعة، أو تستطير فائدة لم أدركها4.
قلت: رحم الله أبو الوفاء بن عقيل فلقد ألف كتاباً أسماه (الفصول) يبلغ عدد مجلداته ثمانمائة مجلد، فضلاً عن بقية كتبه الأخرى.
وهذا ابن الجوزي – رحمه الله – يذكر عن نفسه قصة جميلة تبين كيف كان حرصه على وقته ذكرها في كتابه صيد الخاطر5 فراجعها
أولئك آبائي فجئني بمثلهم | إذا جمعتنا يا جرير المجامع |
وهذا الكون بما فيه مرتبط بالوقت؛ فالشعائر الإسلامية كالصلاة، والصيام، والحج مرتبطة بالوقت، ومواعيد الناس وأعمالهم مرتبطة بالوقت، وحتى قيام الساعة مرتبط بالوقت، وموت الإنسان مرتبط بالوقت، وهذا كله يدل دلالة واضحة على سعة رحمة الله بعباده، وأنه ربط العبادات بالوقت لئلا يذهب كل وقت الإنسان فيما لا فائدة فيه، وربط العبادات بالوقت ليتذكر الناسي، ويستيقظ الغافل، ومع هذا كله فقد شرع الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة.
والإسلام دين النظام والانضباط فلا مكان ولا مجال للعشوائيـة، والفوضى فيه؛ يدل على ذلك الوقت.
والناس في يوم القيام لا يتحسرون ولا يندمون إلا على ساعة ذهبت عنهم ولم يستغلوها في طاعة الله.
الوقت يمر مر السحاب، وما مضى منه لن يعود، وهو مع ذلك أنفس ما يملك الإنسان وهو كما قال أحد الشعراء:
مرت سنين بالوصال وبالهناء | فكأنها من قصرها أيام |
ثم انثنت أيام هجر بعدها | ثم انثنت أيام هجر بعدها |
ثم انقضت تلك السنون وأهلها | فكأنها وكأنهم أحلام |
قال الحسن البصري – رحمه الله -: “ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة”.
وصور أحد الشعراء كيف يمضي العمر (الوقت) ويذهب بلا رجعة فقال:
وما المرء إلا راكب ظهر عمره | على سفر يفنيه باليوم والشهر |
يبيت ويضحي كل يوم وليلة | بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبر |
وبالتالي فإن من جهل قيمة الوقت فإنه سيأتي يوم ويعرف قيمة وقدر ونفاسه الوقت قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ * كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون [المؤمنون:99-100]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:9- 10] فيكون الرد: وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:36-37]. فإذا كان الله قد امتن على عباده بتسخير الليل والنهار، وأقسم بالوقت في مواضع عدة من كتابه، وأخبر النبي ﷺ أن الإنسان سيحاسب على وقته وعمره، وأن الله قد بيَّن أن الإنسان يتحسر ويندم ويتمنى أن يعود إلى هذه الدنيا ليعمل الصالحات، فإن الواجب على الإنسان أن يتدارك عمره من الآن، وليكن ذو همـة عالية في المحافظة على وقته، وليستغل وقته كله فيما ينفعه في دينه ودنياه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.